إنه لشرف لي أن ألقي كلمتي في رعاية «جمعية هنري جاكسون». ولا منصة أفضل من مجلس العموم لتناول مسائل الحوكمة (GOVERNANCE)، خصوصاً أن هذا المنبر مهد للديموقراطية في العالم، علماً أن مفهوم السيناتور جاكسون ببعديه الاستراتيجي والمبدئي يشكل إطاراً لنظرتنا الى الشرق الأوسط الذي يعاني انعداماً للاستقرار ويحمل تهديداً ذاتياً. ولدى التبصر في الواقع المؤلم، نسترجع في أذهاننا اليوم الوصف القاسي الذي استخدمه هوبز عندما قال: «إنها حرب الكل ضد الكل».
بالتالي، بات من الضروري أن تقوم الدول العربية المعتدلة والشركاء الدوليون بعمل عسكري للردّ على الجرائم التي تقترفها الدول الفاشلة وما يسمّى بتنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق والشام أو «داعش». وفي ضوء هذا الواقع المرير، أصدر ممثّل الفاتيكان في جنيف بياناً في مطلع آذار (مارس) دعا فيه إلى تشكيل قوّة متعددة الأطراف تحظى بموافقة الأمم المتحدة لوقف ما سمّاه «الإبادة» التي يقترفها التنظيم بحقّ المسيحيين وغيرهم من المجموعات.
واذا كان استخدام القوة العسكرية ضدّ تنظيم «داعش» مسألة ملحّة في المدى القصير، الا أنه في المدى الطويل، يبقى الدعم المكثّف لقضايا حقوق الإنسان والتعددية والديموقراطية على غرار تلك الممارسة في دول المواطنة، الكفيل بضمان الاستقرار في المجتمعات العربية والشرق الأوسط ككل.
في التحليل الآتي استعراض لثلاثة نماذج تواجهها الحوكمة العربية، وهي: الدول الفاشلة، وتنظيم «الدولة الإسلامية»، ودول المواطنة. أنتقل بعدها إلى تعليل السبب الذي يجعل بروز نظام حوكمة مستدام في الشرق الأوسط مستحيلاً من دون أن تقدم الأنظمة الديموقراطية العريقة الدعم إلى الأطراف العربية المعتدلة في حملتها لإرساء الديموقراطية والتعددية.
واقع الدول الفاشلة
تشكّل العراق وسورية وليبيا واليمن اليوم أهم النماذج عن الدول الفاشلة أو في طور الفشل. فحين تنهار سلطة قائمة يعزى ذلك لأسباب متعددة وبخاصة في آن. ومن المنطقي أن نتطرّق لنموذجي العراق وسورية معاً بسبب أوجه التشابه الجوهرية، مع الإقرار بعوامل الفرادة والتعقيد التي يتصف بها كلّ من النموذجين.
فقد نجت سورية والعراق من مرحلة الحكم العثماني لتقعا تحت السيطرة الأوروبية من خلال مقررات اتفاقية «سايكس - بيكو» الإنكليزية - الفرنسية للعام 1916 وما بني عليها من ترسيم لحدود الدولتين.
وضمّ العراق كما سورية بحدودهما الجديدة فسيفساء من الجماعات المختلفة، من العرب السنّة والعرب الشيعة والأكراد السنّة والعرب المسيحيين في العراق، إلى العرب العلويين والعرب السنّة والعرب الدروز والأكراد السنّة والعرب المسيحيين في سورية. لكن هذه الفسيفساء الدينية الإثنية في البلدين التي شكّلت مجتمعاً وطنياً تعددياً، لم تُمنح أو تحظَ بأسس تلاحم صلبة، بل بات الحكم السلطوي نمطاً سائداً وعقيدةً حاكمةً، تبعها الحسّ الانتقامي بسبب توالي الحكم القائم على عقلية إجرامية.
وفي القرن الذي أعقب الحرب العالمية الأولى، اتسم تاريخ الحوكمة في سورية والعراق، كما في الدول العربية عامة، برداءة ملفتة، فلم تُترك في هذين البلدين دولٌ أو مجتمعات فاعلة مستقرة تعدّدية تتحلى بالتسامح، ولم يعمل أي منهما على تأسيسها.
تعددت أسباب إخفاقات الحوكمة العربية. ويمكن تلخيص جزء منها بالعوامل التالية: قيادة محدودة الأفق لا تخضع للمساءلة، نفوذ غير محدود، هيمنة مطلقة للجيش والشرطة والأجهزة الأمنية، تفاوت اقتصادي سافر، أنظمة إدارية بيروقراطية خانقة، فشل ثقافي وتعليمي، غياب آلياتٍ لتحقيق العدالة الاجتماعية والقضائية، وانتهازية في تقديم الخدمات الأساسية كالرعاية الصحية والخدمات الأخرى. وحالت هذه العوامل دون بروز كوادر طليعية مثقفة وقادة للمجتمع المدني ممن يستطيعون دفع الدول والمجتمعات العربية نحو إصلاح حقيقي.
وما ان ترنّحت سلطة الدولة أو انهارت تحت وطأة احتجاجات «الربيع العربي» في السنوات القليلة الماضية، حتى أضحت القوى الإسلامية إطاراً بديلاً جاهزاً للحكم وقادراً على الاستمرار. لكنّ الإسلاميين كشفوا عن تسلّط سياسي وتعسّف ثقافي ونزعة نحو القمع والعنف.
وتشكّل سورية نموذجاً مذهلاً لإخفاق الدولة، حيث خطّطت المجموعة الحاكمة فيها عن سابق إصرار وتصميم للدمار الجزئي الذي أصاب البلاد بهدف الحفاظ على السيطرة على المناطق الرئيسية فيها. وقد سار مخطط الحكومة على مسارين: سمح الأوّل للإسلاميين بالنمو وزرع الخوف في البلاد، وعمل الثاني على التدمير الممنهج لمناصري الديموقراطية. ولم يأتِ عمل الحكومة السورية خارج إطار مسارها المعهود، فحاولت زرع ظروف الفوضى العارمة في أطراف البلاد لتثبيت قبضتها الفولاذية على المناطق المركزية، بما يتماشى مع أسلوبها باستخدام الارهاب كأداة للدولة.
والآن، وبعيداً من التحديات الطارئة للقضاء على المتطرفين المنتشرين في أنحاء سورية، يبقى السؤال الأهم: «هل يمكن إعادة تأسيس سورية الدولة والمجتمع؟».
مع مرور الزمن، على اندلاع النزاع، تستشري الفوضى ومعها العنف، وتتضاءل الآفاق لتأمين حلول قصيرة أو متوسطة الأمد لمصالحة السنّة والعلويين والدروز والأكراد والمسيحيين الذين يرزحون تحت وطأة الصدمات والخوف المشترك. وفي غياب قوّة دولية قادرة على فرض الاستقرار من الخارج، وعدم بروز أفق لتشكيل قوّة مماثلة، سيستمر الجرح السوري بالنزف، إلى أن ينشأ تحالف سوري داخلي قادر على إرساء حجر أساس للاستقرار، يستند في جوهره الى حسّ بالهوية المشتركة والوحدة الوطنية في المدى الطويل.
فسورية ما بعد النزاع، أي سورية ما بعد الأسد، ستشهد حتماً حلولاً أساسية سبق اعتمادها في عراق ما بعد حكم صدّام حسين، كمنح الاكراد حكماً أو استقلالاً ذاتيين، ما سيدفع بمجموعات أخرى الى المطالبة بترتيبات مماثلة.
ولا بد من أن يبدأ التقدم بالحل على المستوى الدولي أولاً، لأن من الأسهل على القوى الخارجية التوافق على عناوين عريضة للتسوية في سورية أكثر من قدرة الأطراف المتحاربة على اتمام هذا التوافق.
كما أن من شأن التوصّل الى اتفاق شامل حول الملف النووي الإيراني، أن يحرّك عجلات الديلوماسية في المنطقة ويؤدي إلى تقدّم على مسارات عدة منها المسار السوري.
ويظهر ذلك جلياً عند النظر إلى احتمال تحوّل سورية من دولة فاشلة إلى دولة قيد التعافي ثمّ إلى دولة مواطنة: فلا يجوز السماح للمجموعة الحاكمة نفسها التي حاولت أن تدمّر البلاد، بهدف الحفاظ على ما تبقى من سلطتها، أن تعاود الحكم مجدداً.
واقع تنظيم «الدولة الإسلامية»
تشكّل دراسة واقع سورية كدولة فاشلة مقدمةً مناسبة للدخول في دراسة واقع التنظيم المُسمّى «الدولة الإسلامية»، لأنني أشرت من قبل الى وجود علاقة عضوية فاعلة بين نهج الحكومة السورية ونشأة تنظيم «داعش» في مناطق واسعة من سورية والعراق.
ليس من الصعب فهم جوهر هذا التنظيم، ويمكن إدراكه من خلال المفردات التي تستخدم لوصف أعماله: كالمجازر والفوضى وقطع الرؤوس والصَلب والقتل والاغتصاب والاستعباد الجنسي وحرق الضحايا وهم أحياء. وليست هذه مجرّد عبارات وأعمال فظيعة يربطها العالم بتنظيم «داعش»، بل عباراتٌ وأعمالٌ يتباهى التنظيم نفسه باقترافها وفقاً لما توثّق ممارساته الكثيرة المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي.
وعليه، فإن طبيعة تنظيم «داعش» واضحة لا تحتاج إلى أي تفسير، فمنطقهم بسيط وواضح، إذا صحّ استخدام كلمة منطق، ويعتبر ان البديل من الدول الفاشلة في العالم العربي لا يكمن في مستقبل عصري جديد، بل في حكم الإرهاب المشرّع بتبريرات دينية مغلوطة.
ومع أن التنظيم مخيفٌ في تطرّفه ونجاحاته الخاطفة، الا انه لا بدّ من التذكير بأن هذه الحركة تنطوي على مكامن ضعف ستؤدي حتماً إلى سقوطها كقوّة كبرى في أقل تقدير.
وفي المحصلة، صحيح أن الفوضى تؤدّي إلى الدمار، لكن بناء بدائل مستدامة يتطلب مهارات قيادية وقدرات للحوكمة لم يظهرها التنظيم بعد. وستدفع ديناميات الحكم والفوضى نحو ردّ فعل شعبي مناهض لهذا التطرّف وستنبذ المجتمعات السنّية هذا التنظيم في وقت يعتبرها التنظيم الحاضنة الصلبة له.
واقع دول المواطنة
إذا ثبت عجز الدول الفاشلة وما يُسمّى بتنظيم «الدولة الإسلامية» عن تبوؤ منصب المحافظين على الحضارة العربية، فعلى الإصلاحيين العرب وشركائهم الدوليين أن يبحثوا عن خيار ثالث، وهو دول المواطنة.
في هذا الإطار، أودّ أن أتطرّق باختصار إلى بعض وقائع دول المواطنة العربية، مستعيناً ببعض الأمثلة المحدّدة عوضاً عن التحدث بشكل عام. وسنأخذ تونس مثالاً كدولة مواطنة ناشئة، والأردن كدولة مواطنة نامية، ولبنان كدولة مواطنة مترسّخة.
تقدّم هذه البلدان الثلاثة، الصغيرة في الحجم والكبيرة في التأثير، نماذج بديلة للعالم العربي، رافضة التطرّف التدميري الذي يتبناه تنظيم «داعش» والوحشية الدموية التي تعتمدها الدول الفاشلة. فقد شكّلت هذه الدول مجتمعةً لوحةً تبيّن مستقبل عالم ٍعربيٍ تسوده الديموقراطية والحرّية وحقوق الإنسان.
ما هو إذاً تعريف دولة المواطنة؟
دولة المـــواطنة في اعتـــقادي هي الدولة التي تطبّق العناصر التالية فيها: إيلاء الأولوية المطلقة لرفاه الأفراد، فصل الدين عن السياسة بشكل كامل، شفافية الحوكمة التنفيذية، الإشراف والمساءلة البرلمانية، نزاهة الانتخابات على كل المستويات وتنافسيتها، استقلال القضاء، ازدهار التعددية وتجلّيها في شكل مساواة بين الرجل والمرأة، التسامح الديني، استقلالية المجتمع المدني والتعبير الثقافي.
كما ساهمت قوّة المجتمع المدني التونسي في مرحلة الانتقال في الربيع العربي من خلال العمل كثقل مضاد لنفوذ الحركات الإسلامية، ما ظهّر الحاجة للتوصّل إلى تسويةٍ وأفسح مجالاً سياسياً لها.
أما الأردن، فيمكن وصفه بدولة المواطنة النامية، وبرزت في دور المدافع الرئيس عن التعددية الدينية في العالم العربي، وقد أدى جزءاً من هذا الدور عبر مشاركته البارزة في التحالف الدولي المضاد لتنظيم «داعش».
ويمكن تصنيف بلدي لبنان كدولة مواطنة عريقة، رغم خضوعه لشروط تشبه الحصار. فمنذ عقد من الزمن، بدأ لبنان يتعافى جسدياً ونفسياً وروحياً من مرحلة الصراعات الداخلية التي أطلقتها قوى خارجية وغذّتها. ثمّ أتت حربٌ مدمّرة مع إسرائيل أعقبتها تداعيات الصراع السوري المستمرة حتى اليوم، وما زال لبنان يمتصّ صدماتها.
وشكّلت تداعيات الأزمة السورية على لبنان كارثة حقيقية.
وتقول تقديرات إن عدد اللاجئين في لبنان بلغ حتى الآن 1.5 مليون شخص، وإذا اعتبِرت التقديرات الأدنى صحيحةً، يصبح كل شخصٍ من أصل 5 أشخاص في لبنان لاجئاً. وإذا طبّقنا هذا الواقع على بريطانيا، يعادل ذلك استضافة 16 مليون شخص يائس ومحتاج لجميع مقوّمات الحياة، من المأكل والمسكن والتعليم والعمل والرعاية الصحية.
وبعيداً من المخاطر الحالية، يشكّل وجود هذه الأعداد الكبيرة من التابعية السورية في لبنان بحدّ ذاته تهديداً دائم التأثير على التوازن اللبناني الوطني الهشّ الذي يرتكز الى التوازن المعقّد لمجموعات المواطنين. فهذه الظروف تهدد مستقبل الديموقراطية اللبنانية. ويتجّلى العارض الأكبر للشلل اللبناني في الشغور الرئاسي المعيب والهدّام والانهزامي والاختياري نوعاً ما.
والأهمية هنا في أن تكون الدولة اللبنانية دولة قادرة على العمل بكامل طاقتها، ليس بهدف إدارة أزمة اللاجئين المستمرة في البلاد فحسب، بل لأن لبنان كفكرةٍ ومفهومٍ للتسامح يحمل دلالة أكبر على صعيد الشرق الأوسط، كونه الدولة العربية الوحيدة التي تأسست على مبدأ تعددية الطوائف ومصالحتها.
فإذا نجحت هذه الصيغة في لبنان (ويمكن أن نراها تنجح في العالم العربي)، يمكن تطبيقها في حالات ما بعد الصراع في البلدان العربية الأخرى.
ورغم أن سورية والعراق أضحيا كابوسين في الوضع الراهن، فهما يشكّلان دليلاً قاطعاً على امكان بناء أنظمة اجتماعية واقتصادية ديموقراطية أو تعددية على الأقل في المنطقة. ويتعيّن علينا في هذا الصدد أن نستذكر سورية قبل الحرب الأهلية. فقد كانت «الأسلحة» الوحيدة التي استخدمها المعارضون في ذلك الوقت ولمدّة ستة أشهر، في وجه حكومة ديكتاتورية وإجرامية، أغانيَ الحرّية والاحتجاجات السلمية المطالِبة بحقوق الإنسان المتعارف عليها عالمياً، ونستخدم مصطلح «أسلحة» هنا بشكلٍ استثنائي وبين مزدوجين.
وتعتبر هذه الأمثلة من سورية دليلاً جازماً على أن الطائفية والراديكالية العنيفة ليستا الخيار الأول للشعوب العربية الرازحة تحت قمع الدول، بل الحكومات الديكتاتورية هي وحدها التي أطلقت موجة العنف والدمار وليس الشعب.
الخلاصة: إعادة تثبيت الديموقراطية
شكّل الابتعاد النسبي للديموقراطيات الرائدة عن الأزمات أحدَ أهم العوامل التي ساهمت في تأجيج الصراع في سوريا والعراق وليبيا واليمن ومناطق أخرى.
ويبرز هذا الخمول السلبي بوضوح عند المقارنة بين الدعم القوي والمطلق الذي تقدّمه روسيا وإيران لحكومة الأسد والمقاربة التي تنأى بالنفس نوعاً ما والتي تعتمدها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا تجاه سورية والتي اقتصرت فعاليتها على احتواء تنظيم «الدولة الإسلامية».
وضع الشرق الأوسط اليوم يشير إلى «أزمة ثقة» أعمق تمنع الديموقراطيات الرائدة من اعتماد سياسات فاعلة. والأخطر أنه يبدو أن أزمة الثقة هذه قد قوّضت الثقة بالديموقراطية نفسها وبتطبيقها الشامل.
وقد تساعد الجهود الآيلة إلى اعادة ثقة الديموقراطية الدولية بنفسها في تثبيت مقاربة السيناتور جاكسون في تحديد المصالح الحيوية للقوى العظمى، مع وجوب تطبيق الممارسات الديموقراطية على صعيد أوسع في مجتمع الأمم.
حتى الرئيس الاميركي باراك أوباما يدعم مبدأ نشر الديموقراطية في خطاباته، رغم أن ولايته شهدت انكفاءً نحو مفهوم الواقعية السياسية. وإذا طبّقنا كلمات الرئيس أوباما اللافتة على العالم العربي الذي تسوده الفوضى، يبقى ما نحتاجه بالدرجة الأولى وجود استراتيجية مرسومة بدقّة ووضوح، ومطبّقة لدعم حراك المجتمع المدني والتدريب على مناصرة الديموقراطية والحوكمة الخاضعة للمساءلة.
ويدهشني عند مراقبة السياسة الخارجية والنشاط الديبلوماسي للديموقراطيات أن أرى الحماسة غير المحدودة لتثبيت الاتفاقيات التجارية مقابل الالتزام المنقوص لمناصرة الديموقراطية والتعددية في الخارج.
لذلك يمكن أن ترتكز الطروحات الجديدة لإرساء الاستقرار في العالم العربي من خلال دعم الديموقراطية على تاريخ بريطانيا الطويل في فنّ إدارة شؤون الحكم.
ان هذا النوع من الحوكمة المبتكرة هو بالضبط ما تحتاج إليه المجتمعات العربية إذا أرادت أن تخرج من مستنقعات الصراعات الطائفية والإثنية والإقليمية.
الا ان بريطانيا وسواها من الديموقراطيات لن يكون بمقدورها خدمة قضية حقوق الإنسان والحرّية في العالم العربي، إذا رفض العرب الذين يدعمون هذه القضايا مساعدة أنفسهم، لذلك ما زلت أدعو منذ أكثر من عقد إلى مقاربة تحمل عنوان «خطة مارشال العربية».
فباستحضار اسم هذه الخطة التاريخية التي حملت اسم «مارشال»، نساعد في التشديد على أوجه الشبه بين أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية والشرق الأوسط اليوم، وخصوصاً في استفحال التطرّف والحاجة إلى إجراءات لدعم الاعتدال. لقد أتى هذا الخطر في أوروبا من التطرّف السياسي الذي سمّي الشيوعية، بينما يأتي في الشرق الأوسط في شكل تطرّف ديني يسمى الإرهاب.
ويتشابه برنامج «خطة مارشال العربية» مع نظيره السابق، فيحارب التطرّف من خلال تعزيز العوامل التالية:
أولاً، ما يسمّى «الاعتدال الملهم».
ثانياً، إعادة الإعمار المادي والتنمية الاقتصادية.
ثالثاً، أنظمة حوكمة جديدة على المستوى المحلي وعلى مستوى التعاون الإقليمي.
ويعتبر «الاعتدال الملهم» عاملاً حيوياً لأنه يساهم في دفع المجتمعات العربية نحو اعتناق الأفكار الديموقراطية كمقدمة تسبق الأنظمة الديموقراطية.
أمّا «التنمية الاقتصادية» فضرورية، لأن من الصعب أن يتقبّل الأفراد حقوق الإنسان إذا كانوا يفتقدون المقوّمات الأساسية، كالكهرباء والمدرسة والمسكن.
الوضع الراهن يقدّم الركائز الأساسية لـ «خطة مارشال العربية حول الشراكة الحقيقية والحوار العميق بين المجتمع الدولي الديموقراطي والمجتمع العربي الديموقراطي الذي يشكّل قوّة متضرّرة ولكنها مصمّمة على التغيير.
وبناءً على معرفتي العميقة على مرّ عقود بالعالم العربي، فأنا على تمام الثقة بأن أي برنامج كخطة مارشال العربية يفضي في نهاية المطاف إلى بناء دول المواطنة، والى انقاذ العالم العربي من التداعيات الوخيمة المدمّرة للدول الفاشلة وتنظيم «الدولة الإسلامية».
فمن خلال برنامج مماثل لخطة مارشال العربية، سيتمكن العرب من أن يحافظوا على جوهر حضارتهم ويضعوا أنفسهم في المسار الصحيح للتاريخ في القرن الحادي والعشرين. ويتميّز هذا المسار بإيقاع تغيير متسارع وصلات متنامية بين الثقافات ومشاركة شعبية متنامية في السياسة.
اسمحوا لي أن أطلق في الختام صرخة من الصميم. لقد سبق وذكرت أنّ شعبَي سورية والعراق ناضلا بسلام للوصول إلى حقوق الإنسان المتعارف عليها ودفعا ثمناً باهظاً في هذا السبيل. كذلك، تكبّد إخوتي المواطنون اللبنانيون المؤمنون بالديموقراطية وحزبي السياسي وعائلتي شخصياً ثمناً باهظاً وقدّموا تضحيات عظيمة للدفاع عن مبادئ الحرّية وحقوق الإنسان وتطبيقها.
فلا يجوز في رأيهم أن تتخلى الديموقراطيات العريقة في أوروبا وأميركا الشمالية في هذه اللحظة المفصلية عن الجماعات العربية الساعية نحو الديموقراطية. والآن في لحظة الصراع بين الحضارة والبربرية، يجب أن نستحضر المثل الفرنسي القائل: «المعركة الوحيدة التي ستخسرها حتماً هي المعركة التي ترفض أن تحارب فيها». وبالنسبة إليّ شخصياً، لن أتوانى أبداً عن الدفاع عن الحرية والكرامة.
* رئيس الجمهورية اللبنانية (1982 - 1988)، والنص محاضرة ألقاها في مجلس العموم البريطاني في 23 آذار (مارس) 2015 .
|