التحوُّل الدراماتيكي للأحداث في اليمن الذي برز مع عملية «عاصفة الحزم»، هو أكثر من مجرد معركة في بلد واحد في شبه الجزيرة العربية. فهو تمحور في الواقع حول عودة إطلالة المملكة العربية السعودية بقوة على السياسات الإقليمية في الشرق الأوسط. والتطورات في اليمن، في هذا الإطار، سوف يكون ممكناً استخدامها للمساومة مع إيران حول قضايا إقليمية، بما في ذلك سورية.
في 29 آذار (مارس) عقدت جامعة الدول العربية مؤتمر قمة في شرم الشيخ، أقّرت خلاله تشكيل قوة عربية مشتركة. مبدئياً كل أعضاء الجامعة يفترض أن يكونوا جزءاً من قوات النخبة الاختيارية هذه. الدافع المعلن وراء هذه القوة هو تشجيع التعاون الأمني عبر العالم العربي. بيد أن الحافز الكامن هو تأمين سلامة الأنظمة العربية ضد المخاطر الداخلية والخارجية، سواء اتخذت شكل الثورات الداخلية أو «الجهادية» المتطرفة. هذا علاوة على إعادة موضعة علاقات القوة في العالم العربي لاستعادة دور السعودية كزعيم إقليمي.
بالنسبة إلى اليمن، كانت السياسة السعودية إزاءه متفاوتة في الحقبة التي أدّت إلى التمرد الحوثي الذي بدأ في أيلول (سبتمبر) 2014. فأقنية التواصل بين السعودية والحوثيين كانت مفتوحة، وإن بصورة غير مباشرة. بيد أن الموقف السعودي المُعلن كان يشدد على أن الحوثيين مطيّة خطرة بين أيدي إيران. فقد بدأت إيران تقيم علاقات وثيقة مع الحوثيين بعد أن انصتت إلى ردود فعلهم على الاتهامات السعودية لهم، وذلك في سياق محاولاتها لزيادة دورها في العالم العربي، وكان تطوير هذه العلاقات على رغم أن الحوثيين لا ينتمون إلى المذهب الشيعي الإثني عشري ولا يقيمون علاقات عميقة ومديدة وإيديولوجية مع إيران، كما هو الحال، على سبيل المثال، مع «حزب الله» اللبناني. وبالتالي، كانت العلاقات الإيرانية - الحوثية تحالفاً مفيداً لكلا هذين الطرفين، اللذين اغتنما فرصة تراجع الدور الإقليمي السعودي خلال السنوات القليلة الماضية.
وفي هذه الأثناء، يبدو أن السعودية لم تتوقف بما فيه الكفاية عند طموحات الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، الذي سُمِحَ له بالبقاء في اليمن بعد تطبيق مبادرة مجلس التعاون الخليجي التي أنهت حقبة رئاسته. وهذا ما مكّنه من قيادة حزبه السياسي ومن مواصلة ممارسة نفوذه على الجيش اليمني. كما مكّنه من مغازلة الحوثيين الذين شاطرهم نقمتهم على الحكومة وعلى الرئيس عبد ربه منصور هادي. وتقاطعت المقاربة السعودية إزاء الحوثيين مع عدم الانتباه إلى علي صالح، ما ساهم في تصعيد التوتر الذي نشهده الآن في اليمن، بخاصة بعد أن اعتبر الحوثيون وعلي صالح أنه يمكنهم اقتناص هذه الفرصة لزيادة نفوذهم.
لقد أثار تمرد الحوثيين وتمددهم السريع باتجاه الجنوب قلق السعودية، لأنها اعتبرت أن هذا كان مؤشراً على تصاعد الطموحات الإيرانية والحوثية في آن. وهكذا، وبدلاً من أن تنظر السعودية إلى الحوثيين على أنهم قوة يمكن تحمّلها في الشمال، اعتبرتهم أنهم يشكلون تهديداً كبيراً لمصالحها، فاندفعت إلى العمل من خلال تشكيل تحالف عربي- دولي يسعى إلى استعادة اليمن، ومعه استعادة نفوذها في منطقة الخليج. وجاء دعم الدول المتحالفة معها، وفي مقدمها مصر وباكستان، بالإضافة إلى مساندة دول غربية كالولايات المتحدة وفرنسا، للحملة العسكرية التي تقودها السعودية، ليعزز إلى حد كبير معنويات الرياض.
الأرجح أن السعودية واثقة من أنها ستلحق الهزيمة بالحوثيين لأسباب عدة، منها مشاركة قوات من التحالف المتعدد الجنسيات في عملية «عاصفة الحزم»، وأيضاً لأنه ليس لدى الحوثيين فرصة للصمود في وجه هذا الهجوم. والحال أن علاقة إيران مع الحوثيين براغماتية أكثر منها إيديولوجية، ما يعني أنه يحتمل أن تتخلى طهران عنهم إذا استنتجت أن وضعهم ضعيف. إذ لدى إيران معارك أكثر أهمية لتخوضها، وفي مقدمها التفاوض حول ملفها النووي والوضع في سورية. وبالتالي يمكنها التضحية باليمن مقابل مكاسب أكبر في المشرق العربي.
اليمن، إذاً، بات واحداً من سلسلة جبهات قتال في المجابهة التنافسية بين السعودية وإيران. بيد أن النصر السعودي المحتمل في اليمن سيكون أكثر من مجرد كسب معركة واحدة. فإذا وطدت الرياض سيطرتها على اليمن، فستستعيد نفوذها في منطقة الخليج في شكل أكثر شمولية من ذي قبل. وقد أمكنت السيطرة على الوضع هناك من خلال تدخل قوات «درع الجزيرة»، ما أطلق إشارة قوية في اتجاه الطموحات الإيرانية في المنطقة. وجاء هذا أيضاً فيما تكبح السعودية جماح طموحات قطر السياسية الخاصة، وبعد أن جذبت الدول الخليجية الأخرى إلى جانبها في الحملة ضد جماعة «الإخوان المسلمين». ولا شك أن تعزيز الدعم الخليجي للموقف السعودي سيكون منصة انطلاق نحو حصد نفوذ أكبر في العالم العربي.
لفترة، كانت السعودية تبدي رغبتها علناً في إقامة اتحاد خليجي، ثم داعبت لاحقاً فكرة استراتيجية أمن خليجي مشتركة. لكنها الآن حققت على ما يبدو هدفاً أكبر، من خلال إعلان جامعة الدول العربية عن مبدأ تشكيل قوة عربية مشتركة بناء على اقتراح الرياض.
كل هذا يعني أنه حين يهدأ غبار المعارك في اليمن مع هزيمة الحوثيين، سيكون في وسع السعودية الاعتماد على دعم الدول العربية الحليفة لمواجهة تمدد النفوذ الإيراني وانتشاره، خصوصاً في العراق وسورية. وعلى رغم أن الوجود الإيراني لا يزال قوياً في هذه الأخيرة، إلا أن نظام الأسد لا يزال يُمنى بنكسات أكثر من ذي قبل. وقد لعب التنسيق السعودي مع فصائل المعارضة المسلحة، وكذلك مع شركاء إقليميين آخرين، دوراً يُعتدّ به في هذا السيناريو، كما تجلى في سقوط ادلب أخيراً. وكلما راكمت السعودية عناصر القوة قبيل المفاوضات، التي ستكون لاحقاً حتمية بلا شك، حول مستقبل سورية، كلما تزايدت فرصها لتحقيق تسوية للنزاع تستجيب لمصالحها. وعلى رغم أن إيران لن تقبل حلاً لا يجاري هدفها الخاص بالحفاظ على سورية كممر لإمداد «حزب الله» بالسلاح، فإن في إمكانها استخدام «التضحية» في اليمن مقابل حل وسط سياسي في سورية يستند إلى تقاسم السلطة بين عناصر من النظام الحالي وبين المعارضة. أما السعودية فيحتمل أن تقبل درجة ما من النفوذ الإيراني في المشرق العربي، في مقابل تعزيز نفوذها في منطقة الخليج.
إن السباق الراهن بين السعودية وبين إيران المتجسد الآن في اليمن ليس، إذاً، تنافساً سعودياً- إيرانياً يتضمن رغبة كل طرف في القضاء الكامل على خصمه. فكل لاعب يسعى فقط في الواقع إلى دفع ميزان القوة كي يميل لجانبه. وعلى رغم أنه بدا لوهلة أن إيران لها اليد العليا في هذه اللعبة، أساساً بسبب ما كانت تتوقعه من تراجع لدور السعودية، إلا أن الصورة تتغيّر الآن وتعيد بموجبها السعودية تأكيد نفسها مجدداً بوصفها قوة مُقررة للأمن والسلطة في الشرق الأوسط.
* كاتبة لبنانية ومديرة مركز «كارنيغي للشرق الأوسط» في بيروت
|