لن تكون تونس طيعة، ولا عرضة للمآلات التي وصلت إليها بلدان الربيع العربي، من تحول السمات الثورية الأولية للحراك الشعبي إلى اقتتال أهليّ، فتونس تتميز عن غيرها بتركيبتها الاجتماعية المتجانسة دينياً وطائفياً وعرقياً، وهذا ما كان مفقوداً في بقية البلدان. كما أن تونس، تاريخياً، تمتلك عناصر تكاد تكون فريدة في العالم، فنستطيع أن نصف تاريخها منذ مملكة قرطاج وإلى عشية الثورة عام 2011 بأنه تاريخ أنثوي!
يختلف المجتمع التونسي عن غيره من المجتمعات العربية في أنه، في غالبيته الساحقة، مسلم سنيّ، ولا مذاهب تفرقه فقهياً، وإن كانت هناك أقلية يهودية، تعدادها نحو ألف نسمة تقريباً، بعد أن ترك التونسيون اليهود بلادهم إثر نكبة عام 1948 ونكسة 1967، وهاجروا إلى فلسطين أو إلى فرنسا وغيرها. وهناك أقلية مسيحية، تبنت الدين المسيحي بحكم وجودها في الدول الأوروبية، أو من خلال المبشرين المسيحيين الذين نشطوا بعد الاستقلال. وفي عام 2012، جرى حديث عن حركة تشيع في تونس، ومحاولة تأسيس حزب شيعيّ باسم حزب الله بتشجيع من المخابرات الإيرانية، للدخول إلى تلك المنطقة سياسياً عبر بوابة التشيع.
عرقياً، كانت تونس وطناً للأمازيغ حتى الغزو الفاطمي في القرن العاشر، وجعلت أسلمة المجتمع بقوة سيف الفتوحات، ومن ثم تعريبه، من وجود الأمازيغ في تونس أقلية صغيرة، تدامجت بالمجتمع، وخصوصاً أن الدستور التونسي الحديث الذي وضعته البورقيبية ما بعد الاستقلال لم ينسج على منوال الدول العربية الأخرى من رفع رايات العروبة والإسلام كهوية للدولة. من ناحية أخرى، الميزة الساطعة للمجتمع التونسي، والتي تجعل بلاده حالة خاصة في الواقع العربي، قديماً وحديثاً، هو الدور والفاعلية والحضور للمرأة فيها، منذ فجر التاريخ، وهذا ما يعزز قوة هذا المجتمع، وتماسكه في مواجهة كل المحاولات، لفرض ثقافة دينية، وقوانين جامدة، تعتمد على النص الديني. فلو عدنا إلى تاريخ تونس، منذ مملكة قرطاج، لوجدنا أن عليسة التي أسست مملكة قرطاج كانت على وشك السيطرة على روما، وكانت من اللواتي خلّدهن التاريخ البشري، حضارة وذكاءً، وعمل تحت إمرتها أشهر قادة التاريخ العسكريين، وهو القائد هنيبعل. وعندما غزا العرب المسلمون أفريقيا في القرن العاشر، وواجههم سكان ما يعرف بتونس اليوم، فإن المتصدين للغزو كانت تقودهم القائدة الأمازيغية "الكاهنة"، وانتصرت على الغازين في أكثر من موقعة، إلى أن هُزمت وقتلت. ولا يزال التونسيون فخورين بتلك المحاربة، ويطلقون اسمها على بناتهم. ويزهو التاريخ الشعبي التونسي بنساء سطرن هذا التاريخ الذي يعتزون به، مثل الجازية الهلالية وغيرها. وفي مرحلة النضال ضد الاستعمار الفرنسي إلى الاستقلال عام 1956، برزت أسماء نساء تونسيات ساهمن في صناعة التاريخ والمستقبل، مثل مجيدة بوليلة وتوحيدة فرحات وشريفة المسعدي وغيرهن.
وإذا كان التاريخ التونسي الحديث يعترف للرئيس الحبيب بورقيبة بوضع مجلة للأحوال الشخصية هي الأفضل في العالمين، العربي والإسلامي، فالفضل في ذلك هو لما قدمته المرأة التونسية نفسها، عبر التاريخ القديم والحديث، فالوعي الجمعي بأهمية المرأة ودورها في بناء المجتمع، والدفاع عما قدمته مجلة الأحوال الشخصية للمرأة، سيجعل برامج الإسلاميين للعودة إلى الوراء عسيرةً ومستحيلة.
كل هذا النسيج التونسي المختلف يجعلنا نعتقد أن التونسيين الذين انطلقت في بلادهم شرارة الربيع العربي يقدمون للعالم العربي مثالاً ساطعاً لاستمرار صرخة الحرية التي أطاحت الاستبداد، ولو كانت تلك الشرارة بسبب صفعة امرأة شرطية محمد البوعزيزي.
نصري حجاج كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية. |