الثورة السورية ونقاش الأخلاق الثورة لحظة احتجاج شامل استثنائية في تاريخ الشعوب والمجتمعات، لا تحصل إلا باجتماع انقلابين كبيرين وتضافرهما: انقلاب داخل المجتمع وبين قواه على نظام السيطرة وما تشمله من منظومات قيادة وتوجيه وتحكم وقمع، وانقلاب آخر أهم على الذات، من داخل ضمير الأفراد أنفسهم، يحرر المجتمعات الخانعة والمستسلمة من روح الشك وانعدام الثقة والانقسام التي لا يقوم استبداد، ولا يستقر ظلم على شعب، من دونها. يحصل الأول بسبب تبدلات مادية، تمس توازنات القوى وتحولات البيئة الاستراتيجية، وظروف معيشة الناس وحياتهم. ويحصل الثاني بسبب انكسار جدار الخوف، وانبعاث الأمل، وبزوغ طفرة أخلاقية، تنتج عن صحوة الإنسان في الإنسان، وارتفاعه على شرطه المادي المشتت، والارتقاء إلى مستوى حياة المبادئ والقيم المعنوية، وكل هذا مما يفجر طاقات العطاء والكرم الروحي عند الأفراد، وينذرهم لعظيم المآثر والمهام التاريخية.
فالحال أن مقاومة الشعوب واحتجاجاتها ضد الظلم والغبن والاحتقار لا تتوقف، وتتجسد في مظاهر مختلفة، وغالباً خفية والتفافية ومشتتة. ما ينتج الثورة صحوة الروح الأخلاقية التي تدفع إلى تجاوز التشتت إلى الوحدة، والاحتجاجات الخاصة إلى تطلعات مبدئية، من كرامة وحرية، تعني الجميع، وتذيب مطالب الفرد في مطلب واحد للتحرر السياسي والإنساني. في اللحظة الثورية هذه، تنتقل الشعوب فجأة إلى حياة أخرى، من نوع آخر، تزول فيها الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بين الأفراد، ويستوي فيها الموت والحياة من أجل المبادئ، وتحل الوحدة والانسجام محل الانقسام والخلافات، ويتغلب الشعور بالأمان على الخوف من الآخر. وهذا هو النبع الذي لا ينضب للشعور بالقوة التي لا تقهر الذي يتملك جماعة الثائرين، ويجعلهم على قلب رجل واحد، يضحون بأنفسهم من دون سؤال ولا انتظار أي جزاء، وهو ما يجعلهم يوحدون مصائرهم، خارج الحسابات الجارية الأنانية التي تجعل الإنسان غريباً عن الإنسان. وهو الذي يزجهم في معركة التحرر الجماعي من قيود العبودية، من دون شبكة حماية ولا أمان.
في هذه اللحظة الاستثنائية من حياة الشعوب والمجتمعات، يتعلم الفرد التلاحم مع الآخر، والعيش على مستوى الحياة الأخلاقية، وانتزاع المبادرة التاريخية والحلم بالمشاركة في صنع التاريخ، وفي تغيير المصائر العالمية. وهذا ما يجعلها لحظة تأسيسية، أيضاً، ونبعاً لخبرة تاريخية لا تنسى، يستمد منها المجتمع القوة والمبادئ الضرورية لإعادة بناء نفسه، وتغيير النظم والمؤسسات والقوانين، وفي ما وراءها تجديد قيمه واكتشاف معنى انتمائه للإنسانية من جديد.
فالثورة تجربة فريدة وحاسمة في تاريخ الشعوب، والخبرة التي ترتبط بها تشكل لزمن طويل خزان الأفكار والقيم المحركة للمجتمعات، والموجه لسياسات ومشاريع التغيير التي تنبع منها نظم وحقوق وواجبات ومعاني جديدة لم تكن من قبل، وهي التي تطلق تيارات تبادل بين الأفراد والجماعات، مادية ومعنوية، لم تكن ممكنة في أي وقت، وتنتج تفاعلات كانت مستحيلة، في شروط التوازنات الاجتماعية السابقة، تقرب بين أفكار ومشاريع ورهانات وتطلعات جماعات بقيت طويلاً تنكر بعضها، أو تتجاهل وجود بعضها بعضاً، ومنها جميعاً تولد أشكال من التواصل والتثاقف والتعامل يطبع سلوك الأفراد، ويفتح آفاقاً جديدة للتجديد والإبداع الاجتماعيين.
مصير الثورات بيد أن مصير الثورات ليس واحداً ولا مساراتها متماثلة، فقد حقق بعضها غاياتها، منذ المرحلة الأولى مع إسقاط النظام القائم. لكن ثورات كثيرة تواجه مصاعب كبيرة، قبل أن تحقق غاياتها، خصوصاً عندما تتعرض لتحالفات عدائية قوية، تزج في الصراع قوى تدخل خارجية، تفوق قدراتها على المواجهة. وقد تخسر بعضها جولتها الأولى لصالح عودة النظام القديم، لكن ثورات التحرر العظيمة لا تهزم أبداً. وقد يضطر بعضها إلى المساومة، وقبول الحلول الوسط، والمشاركة مع قوى النظام القديم في حكومة هجينة واحدة، لا تلبث حتى تفتح مجال الصراع مجدداً. وقد يعقبها انتصار لثورة مضادة، تستعيد آليات عمل النظام القديم، في صيغة أكثر عنفاً وتطرفاً. وقد تتحول هذه الثورات إلى حركات مقاومة منظمة، تحمل شعارات الثورة وأهدافها، وتتابع مسيرتها، لكن، بأشكال وصيغ مختلفة، من حرب المغاوير إلى حروب التحرير الطويلة التي عرفناها في القرنين الماضيين في الصين وبلدان عديدة في أفريقيا وآسيا.
ومهما كان الحال، سواء تحققت الأهداف من الجولة الأولى، وهو الأمر الأندر في التاريخ، أو سارت الأمور في الاتجاه المقابل، لن تتوقف روح الثورة التي انبثقت لدى الشعب عن العمل والدفع في اتجاه التغيير. فمنذ ولادتها في حضن الشعوب، تصبح روحاً فاعلة قوية، ووعياً قاهراً يقوض ما كان قبله من فكر ونظم، ويحرمها من أي أمل في البقاء، ويحول الخبرة التاريخية المستمدة من الانتفاضة الجماعية، والمرتبطة بتضحيات واستثماراتٍ، لا سابق ولا مثيل لها، إلى نار مشتعلة تحت الرماد، لا يمكن لنظام بعدها أن يحظى بالشرعية والاستقرار، ولا لسلطة أن تقوم قبل أن يصبح ممكناً تحقيق الأهداف التي دفع الشعب مسبقاً وغالياً ثمنها، وغالباً ما يكون من أغلى الأثمان.
ليس هناك شك في أن الثورة بالمعنى الأول، أي اللحظة الملحمية لاتحاد الجميع في شخص واحد، والانفصال عن عالم المصالح الخاصة، والارتقاء إلى مستوى الفعل الأخلاقي المؤسس لمفهوم جديد للحق والعدل والمواطنة والاجتماع البشري والإنسان، هذه اللحظة العظيمة التي وحدت الشعب وقوت عزيمته وتصميمه، ولا تزال تغذي بركان كفاحه الأسطوري حتى اليوم، على الرغم من كل العقبات والانزلاقات والاستخدامات، قد انتهت في بلدان الربيع العربي. وعاد قسم كبير من الأفراد الذين فجروها، أو شاركوا فيها، إلى واقعهم البسيط، واقع الصراع من أجل البقاء والحفاظ على الذات بانتظار فرصة قريبة.
من الانتفاضة العفوية إلى المقاومة المنظمة لكن، في معظم بلاد الربيع العربي، وفي سورية خصوصاً، لا يترك النظام المهزوم الذي قام، منذ البداية، على مبدأ القوة والاحتلال، ولم يكن في أي يوم مستعداً لمناقشة إصلاح أو تسوية مع الشعب، وعاش نصف قرن بمبدأ القاتل أو المقتول، خوفاً من تقويض شرعيته كنظام احتلال، أي خيار آخر للشعب سوى الاستمرار في الثورة والمقاومة، والعمل من أجل الانتصار، مهما طال أمد الصراع. فما يطرحه نظام الاحتلال على السوريين ليس حتى العودة إلى شروط حياة ما قبل الثورة، وإنما تكريس نظام الاستعمار للدولة، والآن للبلاد، بمشاركة أجنبية، وتوسيع دائرة التمييز الطائفي والتغيير الديموغرافي والمذهبي، أي شرعنة نظام القتل المنظم، وتأبيد حياة المحنة والمعاناة في مخيمات اللجوء وبقاع التشرد وتعميم الحصار والجوع والموت المبرمج والمحتوم. وهو لا يتردد في سبيل القضاء على المقاومة وروح الثورة عن الذهاب إلى الدرجات الأقصى من العنف والعمل المنهجي المنظم لتدمير المجتمع، وملاحقته بالصواريخ الباليستية، وبالبراميل المتفجرة، لتهجير من لا يزال يقاوم فيه، وتشريده وتحويل الشعب إلى حطام، وتدمير مدنه وأحيائه، لكي لا يعود إليها، وتمزيقه وفرض الانقسام عليه إلى شيع وطوائف ومذاهب، وإغراق روح الثورة في بحر من الدماء والمعاناة المريرة، لإشغال السوريين بتأمين شروط بقائهم، وتضميد جراحهم، عن الاستمرار في المقاومة. في هذه الحالة، يشعر أغلب السوريين عن حق بأن القبول بوقف الثورة وإيقاف المقاومة لا يعني التنكر لتضحيات شهدائهم ومكابدتهم، في السنوات الطويلة للحرب التي أعلنها نظام الأسد عليهم فحسب، وإنما، أكثر من ذلك، هزيمة كبرى لسورية نفسها ولجميع المبادئ التي قامت عليها وحدتها وسيادتها واستمرارها، وهي الهزيمة التي سوف يدفع ثمنها مئات آلاف الضحايا الجدد من الأجيال الراهنة والمقبلة. وهذا ما يفسر استمرار الثورة، على الرغم من كل المحن والكوارث، وترسخ الاعتقاد بأنها لا تزال الرد الوحيد على الحكم بالموت والإعدام على شعب كامل، بالمعنيين السياسي والمادي معا.
لكن، بعكس ما تجلت عليه في السابق، لم تعد الثورة تعني، اليوم، مشاركة في لحظة استثنائية في التاريخ، تجمع كثير الشعب في واحد، وتصل الحاضر بالمستقبل، وتوجه الكل نحو غاية عظمى واحدة، يبدو أن المقاومة الطويلة وحرب الاستنزاف هي الطريق الوحيدة التي بقيت للسوريين، كي يضمنوا الحد الأدنى من أهدافهم، ويحلوا المعادلة الصعبة التي واجهتها ثورتهم المجيدة، والتي تمثلت، ولا تزال، في وجود إرادة تحررية وتصميم عظيمين لدى الشعب السوري على متابعة الثوة حتى النصر، في مقابل تكالب وتحالف قوى خارجية وإقليمية قوية على تصفيتها، وضعف إرادة القوى الصديقة في الانخراط في المواجهة، وإفلاس منظومة الأمم المتحدة وتقويض سلطتها القانونية والأخلاقية. وهذا يعني ويستدعي مراجعة عميقة لخطط الثورة وتكتيكاتها واستراتيجيتها، والعمل على إعادة بناء قواها الذاتية، وتحويلها من هبة شعبية إلى فعل سياسي منظم وبعيد المدى، يهدف إلى تعبئة القوى وتوحيد الجهود والتخطيط للمقاومة الشعبية الطويلة التي تستطيع، وحدها، أن تبني التحالف الوطني والإقليمي الذي يمكن الشعب من هزيمة العدوان وانجاز مهام نزع الاحتلال وإزالة الظلم، وتنظيم وتدريب وتأهيل القوى الجديدة التي ستحمل على عاتقها إقامة النظام البديل وبناء الدولة الديمقراطية التي تمثل الشعب، وتضمن حقوقه وسيادته.
لم يعد التمسك بالثورة يعني الحلم بانتصار سريع وحاسم على عدو متعدد الأوجه والأطراف، وإنما تنظيم المقاومة الناجعة ضد أعمال الإبادة الجماعية والتدمير الشامل وتقسيم الشعب والمجتمع والوطن، تماماً كما يعني الاستسلام لأوهام التسوية التي يبشر بها مجتمع دولي، تخلى عن السوريين، وتركهم لمصيرهم يقتلون بالعشرات، كل يوم، بالبراميل المتفجرة، التفاهم مع القتلة، والتخلي عن الشعب والتنكر لحقوقه، والتضحية بمستقبله لصالح خونته وجلاديه.
برهان غليون أكاديمي سوري، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون في باريس، أول رئيس للمجلس الوطني السوري المعارض، من مؤلفاته: "بيان من أجل الديمقراطية" و"اغتيال العقل" و"مجتمع النخبة". |