ودّع العرب القرن العشرين وهم في غمرة السجال حول عدو داخلي اسمه الفساد وهو ليس سياسيا بامتياز او اقتصاديا فقط، انه تربوي وثقافي ايضا، لكن هذه المساحات غالبا ما يتم السكوت عنها او الهروب منها الى الامام، وما ان بدأ الارهاب يطرق الابواب والنوافذ ويأتي على الاخضر واليابس حتى تراجع الفساد متعدد الرؤوس ليحل مكانه على المسرح هذا العدو القديم الجديد، فهو ليس طارئا بل ما تغير هو ادواته وما يسطو عليه من اسلحة كانت بحوزة دول وجيوش، هكذا اصبح العرب الان بين مطرقة الارهاب وسندان الفساد، وبين ما ينخرهم من الجذور وما يحاول اعادتهم الى الوراء آلاف الاعوام، فماذا هم فاعلون؟
كانت المعالجات الموسمية لهذه الظواهر اشبه بالتخدير الموضعي المؤقت، لكن ذلك تطلّب بمرور الوقت جرعات متصاعدة ومتعاقبة بحيث فقدت تأثيرها، فالفساد له فيروس بالغ الرشاقة في التأقلم اما الارهاب فلديه الان من الأقنعة ما يعدد من اشكال ووجوه، فهو تارة اسلاموي متطرف وتارة ثوْرَوي اذا صدّقنا بأن الثورة هي انثى الثور او توأم الثروة!
ولم يكن العرب منذ الاستقلال على تفاوت قصصه مطالبين بخوض حرب مزدوجة كما هم الان، فالعدوان اللدودان هما الفساد والإرهاب، وثمة صلة قربى بينهما تصل الى حدّ الدم، فالفساد أخفى حقائق وخرّب مؤسسات وعبث حتى بدول بحيث افقدها صلابتها وتماسكها وهيأها للتفكيك، اما الارهاب فهو ثقافة سوداء تسللت وتمددت في غياب الوعي بخطورتها ولم تتسلح الثقافة الانسانية والوطنية بما يكفي لاجهاض هذا العدو في الرحم، بل ما حدث هو العكس، لأن الثقافة الحقيقية التي تلقّح البشر ضد الإصابة بهذا الوباء عوملت سياحيا وباستخفاف، ولأن التربية تركت لكل من هبّ ودبّ من الهواة او من توقفوا عن النمو عند القرن التاسع عشر.
اننا نعيش عصرا يتميز بسرعة استبدال الاعداء وسرعة قلب الاولويات فثمة اساسيات تتراجع الى الهامش مقابل ثانويات تتقدم نحو المُتون، وقد يكون لهذا ما يبرره احيانا لأن التاريخ ماكر ويفاجىء البشر بما هو ليس محسوبا او مُتوقعا، لكن الشعوب ليست مجرد ردود افعال فقط، ولا تعيش اللحظة فقط، وهذا ما ميّز البشر بأن يكون لديهم ذاكرة وتاريخ.
ومن اطرف ما وصف به الارهاب بعد ان بلغ هذا الطور من التوحش والانتحار معا، انه بدا يتلاعب بمنسوب الادرنالين لدى الناس، فهو يحول القتل والذبح والحرق الى حفلات موت تخدمها التكنولوجيا ومنها الفيديوهات . اما الفساد فهو الان ينعم بعطلة قد تطول، لأنه وجد عدوا آخر ينافسه اعلاميا ويتفوق عليه وهو الإرهاب المؤدلج والمدجج بالسلاح والميديا.
الدستور
|