أعلن المجلس المركزي الفلسطيني، في ختام دورة الاجتماعات التي عقدها مؤخراً، «تحميل سلطة الاحتلال (إسرائيل) مسؤولياتها تجاه الشعب الفلسطيني في دولة فلسطين المحتلة وفقاً للقانون الدولي ووقف التنسيق الأمني بكافة أشكاله» معها. بيد أن هذا الإعلان، بالشكل الذي جاء فيه، لم يشكل مفاجأة للمتابعين للشأن الفلسطيني، على ضوء التوترات المستمرة بين الجانبين، وانسداد افق التسوية، وتعمد إسرائيل تنشيط عمليات الاستيطان، وزيادة الصعوبات على عيش الفلسطينيين، ومن ضمن ذلك وقف دفع الأموال المستحقة للسلطة، من الاقتطاعات الضريبية (حوالي 120 إلى 140 مليون دولار شهرياً)، والتي تشكل جزءاً رئيسياً من الموارد التي تحتاجها.
ثمة أربعة أسئلة يمكن طرحها في هذا المجال، أولها يتعلق بمفهوم تحميل سلطة الاحتلال مسؤولياتها تجاه الشعب الفلسطيني. مثلاً: هل السلطة الفلسطينية هي التي تقرر ما تتحمله سلطة الاحتلال؟ ثم هل تملك هذه السلطة القدرة على إجبار إسرائيل على تحمل ما لا تريد تحمله؟ وكيف؟ والمعنى أن فكرة تحميل الاحتلال مسؤولياته ضبابية وملتبسة، وربما هي أقرب إلى التهديد منها إلى التنفيذ، إن لم نقل لمجرد الاستهلاك، علماً أن النقاش المتعلق بهذه المسألة يتضمن مروحة خيارات، ضمنها أولاً حلّ السلطة، ولا يبدو أن هذا الاحتمال مرجّح عند القيادة الفلسطينية، ولا هو مرغوب عند الطبقة السياسية الحالية، فضلاً عن أنه غير مجدٍ في إطار صراع الفلسطينيين على حقوقهم، بعد كل التحولات الحاصلة. ثانياً، خيار الإبقاء على الوضع الراهن، وهذا يشمل حداً معيناً من التنسيق الأمني والإداري الذي تفرضه ضرورات عيش الفلسطينيين، وإدارة الظهر لإسرائيل، وهو خيار يصب في إطار سياسة الأمر الواقع الإسرائيلية، ولا يفيد الفلسطينيين. ثالثاً، يبقى الخيار المتضمن تغيير وظائف السلطة، لكن ذلك يفترض إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، أي تفعيل منظمة التحرير، وإنهاء التماهي بينها وبين السلطة، واستعادة الحركة الوطنية الفلسطينية لطابعها كحركة تحرر وطني، وتحديد مهمة السلطة بإدارة وضع المجتمع الفلسطيني في الداخل، من دون أن تقوم بأي وظيفة تفاوضية إزاء إسرائيل، وهو خيار كفاحي، يقع في منزلة وسط بين خياري حل السلطة والوضع الراهن. ولا شك، إزاء كل ذلك، أن كل خيار من الخيارات المذكورة له متطلباته، كما له تداعياته على أوضاع الفلسطينيين، وكياناتهم السياسية، من الجهة الإسرائيلية ومن جهة المانحين الدوليين، أو الدول الراعية لعملية السلام.
في غضون ذلك فإن هذه الفقرة بالذات من قرارات المجلس، التي جاءت متأخرة جداً، بمقدار عقدين من الزمن، تذكّر بالإجحاف الكبير المتضمن في اتفاق أوسلو، الذي لم يتضمن أصلاً تعريف إسرائيل كدولة احتلال، ولا تعريف الضفة والقطاع كأراض محتلة، وهذا برسم القيادة الفلسطينية والمجلس المركزي.
أما ثاني الأسئلة، التي يمكن طرحها بما يخص البيان، فيتعلق بقضية وقف التنسيق الأمني، الذي بات مطلباً شعبياً، فضلاً عن انه يعد مطلباً لمعظم الكيانات السياسية الفلسطينية، لا سيما أن هذا التنسيق لم يوقف الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين، من قبل الجيش والمستوطنين، كما لم يؤدّ إلى إقناع إسرائيل بجدوى توجه القيادة الفلسطينية نحو التسوية في دولة فلسطينية. وفي هذه المسألة، أي مسألة التنسيق الأمني، بدت إسرائيل كأنها تأخذ مكافأة على احتلالها لأراضي الفلسطينيين، والسيطرة على حياتهم، وتنكيد عيشهم، إذ باتت تعيش في واقع من الاحتلال المريح والمربح، من كل النواحي.
وعلى العموم فإن التعاطي مع قضية التنسيق الأمني ليس بيد الفلسطينيين، أي أنه لا يقتصر على ما يريدونه، أو ما يرغبونه، إذ أن لإسرائيل هنا، التي تسيطر على مجمل نواحي الحياة في الأراضي الفلسطينية، ما تقوله، والأهم ما تفعله، لإجهاض هذه الخطوة، والرد عليها. فإسرائيل، كما نعلم، هي التي تتحكم بحركة الفلسطينيين بين القرى والمدن، وهي التي تسيطر على المعابر الخارجية، فضلاً أنها تسيطر على التجارة وحركة الأموال، وعلى البني التحتية، إلى درجة أن كل تفصيل يخص حياة كل شخص في الضفة وغزة، يتوقف على قرار إسرائيلي.
طبعاً ليس القصد من ذلك انه ينبغي إبقاء حال التنسيق الأمني المهين، وتالياً الرضوخ للإملاءات الإسرائيلية، وإنما التنويه إلى أن الفلسطينيين لم يرتبوا أوضاعهم على النحو اللازم لهذه النقلة النوعية، أي أنهم لم يؤمنوا المتطلبات اللازمة لمواجهة تبعاتها، وتحمل أثمانها.
هذا يقودنا إلى السؤال الثالث، وهو يتعلق بمآل السلطة الفلسطينية التي تؤمن أكثر من ثلاثة أرباع موازنتها (4 بلايين دولار)، من مصدرين أساسيين: الدول المانحة (الولايات المتحدة وكندا والاتحاد الأوروبي ودول الخليج)، ومن إسرائيل، التي تتحكم بالاقتطاعات الضريبية العائدة للسلطة. ومعلوم أننا نتحدث هنا عن سلطة لديها حوالى 160 إلى 180 ألف موظف، إضافة إلى 40 ألف من موظفي سلطة «حماس» في غزة، الذين تطالب الحركة بضمهم إلى مرتبات السلطة. والجدير ذكره أن حجم كتلة الرواتب والأجور في السلطة تقدر ببليوني دولار، أي نصف الموازنة. والسؤال على ضوء ذلك، ما الذي ستفعله السلطة في حال تم قطع كل هذه الموارد أو نصفها مثلاً؟ وهل هناك موارد محلية للتعويض؟ أو هل تمت تهيئة الفلسطينيين لتقبل ذلك، سيما أننا نتحدث في وضع تبدو فيه السلطة مرتهنة تماماً للموارد الخارجية بعد أن باتت المسألة المالية تشتغل كنقيض أو في موقع المقايضة للمسألة الوطنية؟
السؤال الرابع، هل نحن إزاء قرارات أم إزاء توصيات، ذلك أن النقاشات الدائرة في أوساط القيادة الفلسطينية تنم عن نوع من التردد أو عدم الحسم في شأن تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في المجلس المركزي. وكما شهدنا في الأيام الماضية فثمة من يتحدث عن تأجيل السلطة لهذه القرارات لمعرفة ما ستؤول إليه الأمور بعد الانتخابات الإسرائيلية المقبلة. أو إحالة الأمر إلى بعض اللجان الفنية لمناقشة سبل تحميل إسرائيل المسؤوليات، ومعرفة تداعيات وقف علاقات التنسيق الأمني. كما أن هناك حديثاً عن اعتبار أن ما تم الإعلان عنه هو مجرد توصيات ستنظر فيها قيادة منظمة التحرير، أي أنها بمثابة ورقة في يد الرئيس الفلسطيني أبو مازن. وهذه التكهنات كلها تؤكد أن ما جرى، أو ما صدر عن المجلس المركزي، يأتي في إطار التجاذبات التفاوضية بين الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، مثلها مثل القرارات المتعلقة بمقاطعة إسرائيل، والتوجه نحو المحكمة الجنائية الدولية، علماً أن كل ما حصل بعد اجتماع المجلس يؤكد ذلك.
بعيداً عن كل ذلك، وبالارتباط به، فإن بيان المجلس المركزي الفلسطيني يثير فكرة قديمة، مفادها أن القصة لا تتعلق فقط بالإنشاءات والبيانات والشعارات، على أهميتها، وإنما هي تتعلق أساساً بطبيعة البنية، أي الحامل لهذه الأفكار أو الإنشاءات، إذ إن الخلل في طرح فكرة معينة يمكن مراجعته أو تصحيحه أو تجاوزه، في حين أن الخلل في بنية وتركيبة الحركات السياسية يؤدي إلى كوارث. ومثلاً، فإن الفلسطينيين لا تنقصهم عدالة القضية، فهي من أكثر القضايا العادلة التي عرفها العالم، طوال القرن الماضي، كما لا تنقصهم الشجاعة، ولا بذل التضحيات، فقد قدموا الكثير منذ مئة عام حتى الآن. ما ينقص الفلسطينيين فقط، عدا ضعف الإمكانيات والمعطيات الموضوعية غير المواتية، وهما ليستا بأيديهم، هو البنية السياسية التي تمتلك الحيوية والمبادرة، والقدرة على تجديد ذاتها، وإدارة أحوالها بالطريقة المناسبة.
هكذا ليست المشكلة في ما جاء في بيان المجلس، فهو في كل مرة يؤكد على الثوابت الوطنية الفلسطينية، وحق الفلسطينيين في مواصلة الكفاح لاستعادة حقوقهم العادلة والمشروعة، لكن المشكلة تكمن في أنه ليس لدى القيادة الفلسطينية سوى الأقوال، وأنها ما زالت مترددة في حسم طريقها، والأهم من ذلك أنها لا تفعل شيئاً لتأهيل شعبها، وكياناته السياسية، لمواجهة المشكلات والتحديات والتداعيات التي قد تنجم عن وضع أي من القرارات التي تتخذها موضع التطبيق.
نقول ذلك ونحن ندرك حجم الصعوبات والتعقيدات التي يواجهها الفلسطينيون، لكننا نقوله ونحن نعرف أيضاً، أن ثمة ما يتوجب على القيادة الفلسطينية أن تفعله لترتيب البيت الفلسطيني على الأقل، والحد من أكلاف الانهيارات الحاصلة، والحفاظ على الإنجازات الوطنية التي تم تحقيقها في المراحل الماضية، بدلاً من تبديدها، أو تركها للضياع.
* كاتب فلسطيني
|