أثارت تصريحات وزير الخارجية الأميركية جون كيري حول ضرورة التفاوض مع بشار الأسد للوصول الى حلّ سياسي في سوريا الكثير من التعليقات والتكهّنات. وفي وقت رحّبت بها عواصم وقوى "ممانعة"، تخوّفت عواصم وقوى أُخرى من مدلولاتها ومن مؤدّياتها إقليمياً، وموضعياً في سوريا. وإذا كان يصعب اليوم تقدير ما ستُفضي إليه هكذا تصريحات وإعلانات أميركية من نتائج سياسية ومن تداعيات ميدانية، فإنه يمكن الحديث عن مستويات ثلاثة تُتيح قراءتها. المستوى الأول يرتبط بالجديد فيها. والجديد يتمثّل بمفردات وعبارات تطبيعية مع الأسد تتخطّى ما كان يتُرك ملتبساً سابقاً، لا سيما بعد حزيران 2012، حين انعقد اجتماع جنيف الأول. فمنذ ذلك الوقت، واظبت واشنطن على الدعوة رسمياً لحلّ يؤمّن انتقال السلطة في دمشق، واعتبرت الأسد جزءاً من المشكلة وليس "من مستقبل سوريا"، من دون إيضاحات حول المقصود بالأمر وحول شروط رحيل "الرئيس" السوري وتوقيت الرحيل والمستقبل "الشخصي" للراحل. أما هذه المرة، فيبدو الأمر أقلّ التباساً، إذ يشير كيري الى ضرورة التفاوض مع الأسد للوصول الى حلّ سياسي من دون أي اشتراط أو تلميح لما بعد ذلك، أي لموقع الأسد في "المستقبل السوري". المستوى الثاني يقوم على ما هو قديم في الموضوع. فتصريح كيري لا يغدو كونه ترجمة كلامية من وزير الخارجية لسياسات تعتمدها إدارة أوباما منذ ثلاثة أعوام. ذلك أن واشنطن تمنّعت على نحو مقصود عن إظهار الحزم ضد النظام في دمشق، ووضعت فيتو – ما زال قائماً – على تسليح المعارضة بالصواريخ المضادة للطائرات وللدروع التي كان يمكن أن تعدّل الكثير في موازين القوى العسكرية. والأهم والأخطر أيضاً، أنها تمنّعت عن القيام بأي إجراء ضد النظام الأسدي بعد تخطيه الخط الأحمر الوحيد الذي سبق أن وضعته لآلة قتله، أي لجوء الأخيرة الى السلاح الكيماوي. فكان لهذه السياسات أن طمأنت الأسد وحلفاءه الى إمكانية تعامل واشنطن معه إن نجح في البقاء في دمشق، وأتى كلام كيري ليترجم ذلك مشافهةً رسميةً الأحد الفائت. المستوى الثالث لقراءة تصريح وزير الخارجية الأميركية هو المرتبط بمخاطبة واشنطن لطهران عشية جولة هامة من المفاوضات بين كيري ونظيره الإيراني ظريف. فالمفاوضات هذه لا تقتصر على الجوانب النووية التقنية، ولَو أن الملفّ النووي هو الأهمّ فيها، بل تتخطّاها الى البحث في ما يمكن أن يشجّع الإيرانيين على قبول العروض الأميركية، أي الإقرار بأدوار إقليمية لهم وبنفوذ واسع في المنطقة، وبرفع للعقوبات وتطوير للعلاقات الاقتصادية الغربية الإيرانية. بهذا المعنى، يأتي التصريح الأميركي ليقول لإيران "إننا بعد تعاوننا في العراق ضد داعش، جاهزون للتعاون أيضاً في ما خصّ سوريا، شرط القبول بحلّ سياسي هناك". أما ماهية الحلّ وشروطه فمتروكة للحوار والمشاركين فيه، بمن فيهم من حمته وتحميه إيران من السقوط، أي الأسد. قد تكون هذه مستويات قراءة ما قاله كيري. وقد تكون هناك مستويات أُخرى للقراءة. لكن الأهمّ منها ربّما، هو أوّلاً جدواها وما الذي سيبقى منها إذا فشلت المفاوضات الأميركية الإيرانية في الوصول الى اتفاق، وهو ثانياً ما ستكونه ردود فعل دول حليفة لواشنطن عليها (وتحديداً فرنسا وتركيا والسعودية وقطر والى حدّ ما بريطانيا) متحفّظة على الأدوار الإيرانية إقليمياً (أو رافضة لها) وواضحة الرفض لبقاء الأسد أو لتحوّله جزءاً من "الحلّ"...
وسط كلّ ذلك، تدخل الثورة السورية عامها الخامس، وتستمر الحرب الضارية ضدها، وتستمرّ معاناة الشعب السوري داخل سوريا وفي مخيّمات اللجوء والمنافي. والسوريّون الذين خرجوا الى الشارع ذات آذار 2011 لا يبدو أنهم قرّروا الانسحاب منه، رغم المآسي التي أطالتها وتطيلها سياسات وتصريحات قاصرة كالتي اعتمدها وتفوّه بها كيري وأضرابه.
|