تدخل سورية، بثورتها ومحنتها، عامها الخامس بمشهد يدمي القلوب من هول الخراب والدمار وأعداد ما فتئت تزداد من الضحايا والجرحى والمشوهين والمعتقلين والمشردين، ما يثير السؤال عن فرص الخلاص من صراع دموي ذهبت أطرافه بعيداً في الفتك والتنكيل والتعبئة المتخلفة، وعن سبل إنقاذ وطن ودولة يهددهما التفكك والتهالك، وهل ثمة ضوء في نهاية هذا النفق المظلم، أم جولات جديدة من العنف المتمادي وما يخلفه من معاناة مريرة باتت تحاصر الجميع؟!.
يبدو المسار الأوضح هو استمرار الصراع العنيف لمرحلة أطول من الزمن ربطاً بطابع أطرافه التي دأبت على رفض مشاريع التسوية والحلول السياسية، وديدنها خيار الحسم العسكري وخوض المعركة، كمعركة وجود أو لا وجود.
والمشهد جبهات حرب تستعر في عمليات كر وفر بين مختلف الأطراف، يكسب أحدها حيناً ويهزم حيناً، تبعاً لاختلاف المدن والمناطق وللتباينات المستجدة في توازنات القوى وما يستجر من دعم خارجي، والمشهد أيضاً كارثة إنسانية تزداد حدة وعمقاً مع كل يوم يمر، تزيد من الإمعان في تخريب حيوات الناس واجتماعهم ومستقبلهم، والقضاء على ما أنجزوه خلال عقود، وتنذر بتسارع ذهاب الوطن نحو الأسوأ، مؤسسات الدولة والنظام والمعارضة، وحدة المجتمع والوضع الاقتصادي، التعايش والاحتقانات الأهلية والطائفية، الأمن وشروط العيش والحياة.
ولا نضيف جديداً عند التأكيد على مسؤولية النظام بتنكره منذ البداية لأسباب الثورة السياسية والاجتماعية، ورفض مختلف المبادرات السلمية التي طرحت، أو قبولها شكلاً والالتفاف عليها في رهان على الوقت وعلى مزيد من العنف لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه، فكيف الحال وقد تصدرت المشهد جماعات جهادية تزدري السياسة وتسعى الى تنفيذ أجندة اقصائية إسلاموية، وصارت، بعد تمكنها من إزاحة قوى توصف بالمعتدلة من «الجيش الحر» وسيطرتها على جبهات عسكرية إستراتيجية، صاحبة القول الفصل في إفشال أي حل سياسي أو تسوية مقترحة، والأمثلة كثيرة، تبدأ بإجهاض مشاريع وقف إطلاق النار الجزئي أو الهدن الموقتة في غير منطقة، وتنتهي بما تعانيه مبادرة ستيفان دي مستورا تجاه مدينة حلب.
وكيف الحال والصراع السوري صار مسرحاً لتدخلات خارجية ورهينة دوائر إقليمية وعالمية لا تزال لها مصلحة في تغذيته وتأجيجه، بدليل وصول المبادرات السياسية على تنوعها، وآخرها لقاء «موسكو1» ومؤتمر «جنيف 2» إلى طريق مسدودة، وغياب أية فرصة للبناء على دور دولي يساهم في وضع حد لعنف منفلت ويفتح الباب أمام حل سياسي، ربطاً بتهتك التوافق الأميركي الروسي، وتقدم دور إيران السياسي طرداً مع تزايد حضورها العسكري، واستمرار حاجة بعض الأطراف العربية والإقليمية ترك الجرح السوري مفتوحاً لاستثماره في سياق المقارعة على النفوذ والهيمنة.
وفي المقابل ثمة مسار يبعث بعض الأمل في وضع حد للمأساة السورية، يكثفه رهان على حضور إرادة أممية تكسر دوامة العنف وتضع البلاد على سكة معالجة سياسية عنوانها الحفاظ على وحدة الوطن والتأسيس لعقد اجتماعي ديموقراطي والشروع بخطط إعادة الاعمار.
يتقوى هذا المسار من حالة الضعف والإنهاك التي تعاني منها الأطراف المتقاتلة بعد سنوات من الاحتراب والاستنزاف، وشيوع إحساس بلا جدوى استمرار قتالها، وبأن الجميع سيخرج خاسراً منه، ومن ينتصر سيرث كياناً هزيلاً يعاني من عوز اقتصادي مريع ومن مشاكل اجتماعية وأمنية خطيرة، وإذا أضفنا تصاعد مزاج شعبي يحث على وضع حد لرحلة الآلام والعذاب، ويرفض تفكيك البلاد أو تقسيمها إلى دويلات طائفية يعادي بعضها بعضاً، وأضفنا أيضاً الخطر الوجودي على البنية الوطنية الذي يولده تصاعد العنف والحضور الفاعل للقوى الجهادية، نقف عند أهم المستجدات الداخلية التي تنمي الحاجة الى تقديم التنازلات والتهدئة وتسمح بمحاصرة جماعات التطرف ودعاة كسر العظم، في أية جهة كانوا. ولكن الأهم هو المستجدات الخارجية، وعنوانها حضور مصلحة مشتركة عند القوى الإقليمية والعالمية لإطفاء بؤرة التوتر السورية ومحاصرة تداعياتها، أوضحها اليوم احتمال نجاح المفاوضات الإيرانية مع الغرب، حيث يرجح أن يفضي إبرام اتفاق نهائي مع طهران حول ملفها النووي، إلى تقدير بعض نفوذها الإقليمي وإزالة أسباب التوتر في الملفات الساخنة. أما أكثرها غموضاً فهو عقد تسوية سياسية تحت ضغط حاجة التحالف الدولي إلى دور سوري يسانده على الأرض للإجهاز النهائي على تنظيم داعش!
وبين الوضوح والغموض تتصاعد الرغبة لدى بلدان الجوار لوضع حد للعنف السوري المستعر، فالتخوف صار على أشده من تزايد الأعباء السياسية والاقتصادية الناجمة عن تدفق اللاجئين إلى أراضيها ومن مخاطر انفلات هذا العنف وانتقاله إلى مجتمعاتها بسبب المساحات الحدودية الواسعة والتداخل العشائري والديني والقومي، يعزز هذه الرغبة ما يشي عن اكتفاء إسرائيل بحالة الإنهاك والاهتراء التي نالت من الوضع السوري، وتنامي مخاوفها من اضطرارها لمواجهات على حدودها مع قوى إسلاموية متطرفة لا ضابط لها.
صحيح أن ثمة فئات واسعة من السوريين أنهكتها السنوات العجاف وباتت تلتمس الخلاص من هذا الوجع والخراب، وصحيح أن هناك ردود أفعال متنوعة ظهرت في غير مكان ضد استمرار القتال وتضغط على أطراف الصراع لوقف معاركهم، وصحيح أن طريق العنف والإقصاء باتت مجربة ولن تقود سوى إلى استمرار دوامة الموت والإفناء المتبادل، ولكن الصحيح أيضاً أن ثمة قوى مختلفة، داخلية وخارجية، لا تزال تستفيد من استمرار العنف، أصابها العمى الإيديولوجي ويفتنها هوس الهيمنة والنفوذ ويأسرها منطق القوة والغلبة لفرض سطوتها.
«إننا محكومون بالأمل»، والأمل ربما يبدأ بإدراك المتصارعين عبثية تغذية هذه النار المستعرة، ويكتمل بتبلور مبادرة أممية أو خطة طريق تجبر الجميع على ترك ميدان الحرب والخضوع لمعالجة سياسية تؤسس لتغيير ديموقراطي يرضي مطامح الناس ويطمئنهم إلى المستقبل. |