لا تحتاج حال الثورة السورية، والحال السورية عموماً، إلى براهين تثبت تراجعهما. فهناك حال من الفشل لطرفي الصراع؛ المعارضة فشلت في استدراج أصدقائها المزعومين إلى التورط المباشر في إسقاط النظام، والأخير فشل أمام حلفائه في استغلال الدعم اللامحدود الذي قدموه له، ما اضطرهم إلى المجيء بميليشياتهم وعتادهم وقادة معاركهم. وأن يكون النظام قد سلّم البلاد إلى حلفائه، كخيار مقبول أكثر من تسليمه السلطة، فهذا شأن متوقع منه، مثلما ليس متوقعاً الآن أو في ما بعد أن يُقدم على مراجعة فات أوانها. من جهة المعارضة، يُفترض ألا نجزم بفوات أوان مراجعة ما حصل، لا لأنها تملك القدرة والإرادة الكافيتين وإنما لكونها الطرف المناط به نظرياً التأسيس لحراك سياسي يقوم النظام على نقيضه التام.
السوريون، بعد أربع سنوات من اندلاع الثورة، ليس لديهم وثيقة سياسية تتعلق بالمستقبل. يتفقون عليها أو يختلفون، لا بأس، الأهم هو الحوار المنبثق من وجودها، وإذا كان صحيحاً أن مسألة إسقاط النظام هي الطاغية على الاهتمام العام فذلك لا يعفي مؤسسات المعارضة من القيام بدورها المؤسسي والتأسيسي. المفارقة أن المبادرة الأوسع صدى في حينه أتت من جماعة الإخوان المسلمين في ما سُمي «وثيقة العهد والميثاق» الصادرة في 25/3/2012، ومن المعلوم أن تلك الوثيقة كانت أولاً بمثابة تطمينات ترسلها الجماعة نظراً للشكوك والمخاوف إزاء تصورها للحكم الإسلامي. التنظيمات المعارضة الأخرى ربما اعتبرت نفسها في حلّ من تقديم تصورات مماثلة، بسبب عدم استنادها أصلاً إلى فكر أيديولوجي مثير للجدل، وبعضها اعتبر وثيقة الإخوان إبراء لذمة الهيكل المعارض ككل بسبب هيمنة الإخوان عليه.
نعم، لقد صدرت أوراق عدة تتحدث عن مستقبل سورية، لكنها اتصفت بالعمومية، ونصت على مبادئ تعبّر عن نوايا «طيبة» لأصحابها. ما كان ينقص تلك الأوراق افتقارُها إلى آليات تنفيذ مقترحة، حتى بعضها الذي تطرق إلى شكل الحكم المقبل، النظام البرلماني على سبيل المثال، بقي في إطار العمومية وكأن الأنظمة البرلمانية متماثلة في العالم كله. ثمة ذريعة، تتسم بالعمومية أيضاً، تنص على ترك القضايا الأساسية ليبتّ الشعب فيها ضمن المرحلة الانتقالية المأمولة، غير أن هذه الذريعة تختبئ خلف مفهوم مطاط جداً للشعب، وهي لا تصمد أمام تجربة سقوط البعث العراقي وفرض دستور «مسلوق» على عجل، الدستور الذي عُرف وقتها باسم المفوّض الأميركي بريمر، والذي لا تزال مفاعيله السلبية ماثلة حتى اليوم.
في حالة مركّبة ومعقدة، كالواقع السوري، الحديث في العموميات سيبدو انفصالاً عن الحراك الفعلي على الأرض، وتشتد الحاجة إلى تصورات محددة تطمئن الأفراد والجماعات على حقوقهم، من خلال اقتراح آليات واضحة وصريحة، بعضها قد يأخذ شكل آليات دستورية، وقد يستلزم بعضها آليات فوق دستورية، بمعنى أن تكون مبادئ تأسيسية لا يجوز التراجع عنها لقيامها على قاعدة الحقوق الأساسية التي لا يُسمح لأي سلطة منتخبة قادمة تجريد السوريين منها. لهذا الغرض، لا تعاني المعارضة شحاً في الكفاءات القانونية السورية، هي فقط تعاني شحاً في الإرادة والعزيمة، وربما جبناً يمنعها من المخاطرة خارج العموميات «الحميدة».
يُستحسن أيضاً أن تكف المعارضة طوال الوقت عن الصراخ بحاجتها إلى السلاح، لا لأن استغاثاتها لا تصل إلى مبتغاها فحسب، لكن لأن عليها أن تتفكر جيداً في تجربة عسكرة الثورة، كما حدثت، لا كما كان مأمولاً منها. فتجربة العسكرة عيانياً لم تكن مشجعة في قسم معتبر منها، خاصة في السنتين الأخيرتين، وسمحت للعديد من أمراء الحرب بالظهور والتنمر على مبادئ الثورة نفسها، ولا يُتوقع من هؤلاء المتنمرين الانصياع لمتطلبات الديموقراطية في حال سقوط النظام. في كل الأحوال، القتال ضد النظام لا يمنح وحده صك انتماء إلى الثورة، ولا حاجة للإتيان بأدلة عديدة على جبهات فُتحت ضد النظام وعلى هدنات معه أتت على شاكلة إمارات الحرب، ولم تأبه إطلاقاً بمتطلبات الحرب المتكاملة ضده. لا هجاء العسكرة ولا مديحها على الإطلاق يعالجان واقعها غير المؤطَّر سياسياً، أو غير المنتظم ضمن مشروع وطني واضح المعالم. يساعد على ذلك الانفصال شبه التام بين المستوى السياسي للمعارضة والمستوى العسكري، حيث تميل الكفة لصالح الثاني منهما بحكم هيمنته على الميدان، وبحكم تجاوزه الأول في قضايا التمويل وما يلحقها من تعدد في الأجندات.
من جهتها، قضية التمويل برمتها تحتاج إلى مراجعة، إذ يتضاءل التمويل المحلي إلى حد كبير، ربما باستثناء المساهمة في قضايا المساعدات والإغاثة الإنسانية. تدني تمويل الأطر السياسية والعسكرية من قبل الرأسمال المحلي دلالة على طبيعته الانتهازية في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى دلالة على العجز عن استمالة أصحاب رؤوس الأموال، حيث اختار أغلبهم النجاة بمشاريعه خارج البلاد والنأي عن الصراع الدائر فيها. أما التمويل الخارجي فيستند بلا شك إلى مصالح الداعمين، ولا يُعرف بدقة حجم تلاقي تلك المصالح مع المصالح المحلية ومدى تغليب الأولى على الثانية لدى بعض أطراف المعارضة أو أفرادها الفاعلين. ولا غرابة في أن يتذبذب الاستثمار الخارجي في الثورة مع التغير في سياسات الداعمين، وألا تستطيع المعارضة سوى الالتحاق بتلك السياسات أو التذمر والشكوى منها، من دون قدرة على التأثير فيها طالما ارتضت لنفسها موقع الضعيف ولم تستثمر من قبل الدعم الذي نالته على نحو يحظى بالاحترام.
بعد أربع سنوات من انطلاق الثورة، هناك من يبشّر السوريين بتواطؤ دولي على إبقاء الأسد، وهناك من ينذر بحرب تحرير طويلة ضد الهيمنة الإيرانية. المعارضة نفسها لا تملك معطيات ترجح أحد الاحتمالين، ومن المتوقع ألا ينجح مشروع إبقاء الأسد من دون مشاركة المعارضة نفسها؛ هذا الاحتمال في حد ذاته إدانة لها لكونها لم تنجح في اقتراح البديل الجيد. البديل الهجين، المتأتي من فشل المعارضة والنظام معاً، قد يكون أسوأ خاتمة لعذابات السوريين، وحينها تكون المعارضة قد قبضت ثمن فشلها على حسابهم. بالتأكيد، السير في اتجاه هذه الخاتمة أقل مشقة، ويعفي المعارضة من مراجعة تجربتها. |