نعم، استطاعت أميركا بمهارة فائقة سياسياً واستراتيجياً توظيف وإحياء تلك النزعة الاستعمارية القديمة والمعاصرة خلال إسهامها الفاعل في تأسيس التنظيمات الأخطبوطية للإسلام السياسي. نعم، استطاعت استفزاز غرائزها الدموية في زرع ذلك التنظيم الأسود المسمي «داعش» ليفتك بالإسلام تحت رايات إسلامية. نعم، استطاعت تفكيك آليات المجتمعات العربية والاسلامية واختراق أعماقها بأمضى سلاح، هو الصراع الديني والطائفي، ذلك الذي يؤجج الفتنة وتتباين خلاله مسارات العبث السياسي المؤدية بالضرورة لانهيار الأنظمة وسقوط الدول تباعاً. يحدث هذا في إطار المشروع التوسعي الأكبر في التاريخ المعاصر.
وكان «داعش»، الممثل الشرعي للإرهاب الوحشي المماثل لحروب الإبادة الجماعية وبشائع القرون الوسطى هو المرحلة التطورية لتنظيم «القاعدة» الذي أصبح مسخاً للماضي البائد غير اللائق تاريخياً، وهم بالطبع أبناء الفصيل الإخواني الكريه الذي راهن على استعباد المصريين بعد أن ظل خادماً ذليلاً في جنبات الحرم الأميركي، وحين أراد أن يصير حراً عاد سيرته الأولى يتحرق شوقاً إلى السلطة، أية سلطة تشفي داءاته الوبيلة وأحاسيسه غير الإنسانية على الإطلاق.
وعلى ذلك، قدمت الكاتبة والباحثة الأميركية كورث كرونين، مديرة برنامج الأمن الدولي في جامعة جورج مايسون، دراسة موضوعية رائدة استهدفت خلالها الوقوف على مدى الفروق الجوهرية الفاصلة بين «القاعدة» و «داعش»، فالأول صوَّر نفسه مجسداً لحركة تمرد عالمي قادر على تعبئة المجتمعات الإسلامية ضد الحكم العلماني طارحاً الكثير من الحجج والذرائع الدينية المبررة لقتل المدنيين بجانب الرسائل الحميمة عن طبيعة الايثار المتجلي في طبيعة العمليات الانتحارية والاستشهاد في سبيل المجتمع الإسلامي العالمي. ونجح ذلك التنظيم في رسم صورة بطولية زائفة كانت لها تداعياتها في إبرازهم كمحاربين زاهدين أنقياء اعتزلوا الدنيا وآثروا حياة التقشف في الكهوف!
وعلى ذلك، فصورة بن لادن صورة رجل ترفع عن الثروة لتحقيق أهداف ثورية تخدم قضايا الأمة الإسلامية، ومن ثم أحاطته جاذبية خاصة من أتباعه باعتباره نموذج الأب المثالي والقائد الذكي والفارس المغوار. وإذا كان التنظيم استهدف إقامة دولة اسلامية ذات أهداف طوباوية، فاستراتيجيته كانت قائمة على توعية وتعبئة الأمة وضرورة احداث تغيير عميق في النظام العالمي. وتطرح كرونين في إطار مقارناتها الدقيقة فكرة أن تنظيم «داعش» قدم رسالة مغايرة تماماً لأتباعه من الشباب والفتيات، فهو لم يعتمد في آلياته على قضية النقاء الديني وإنما قدم نفسه للساحة العالمية باعتباره تنظيماً مغامراً تقوده نخبة من الشباب الواعي المتميز بقوة الشخصية ورفض الاعتراف بالخطوط الحمراء، بجانب الشعور الطاغي بالذات الدافع نحو الاصرار على تنفيذ الأهداف حتى لو كانت منافية لجوهر الدين الإسلامي استناداً إلى تخريجات غريبة من النص الديني، ويعتمدون في وسائلهم على استخدام أقصى صور العنف الوحشي جذباً للأنظار وتاكيداً للهيمنة واستنكاراً وتحقيراً لأي قوة يمكن أن تردعهم.
وعلى ذلك، جاءت النتيجة لتلك الدراسة المتعمقة أن التنظيم الداعشي أطاح، بنسبة مئوية عليا، هيبة واستراتيجيات التنظيم الأم المسمى «القاعدة»، وتلك أهم الأهداف الكبرى التي احتشدت لها الولايات المتحدة. وهي، في الأحوال كافة، نتيجة منطقية لا سيما لمن أراد أن يقف بالفعل على بعض الملامح التكوينية للتنظيم من أنه يضم نحو أربعين ألف مقاتل من جنسيات مختلفة، وهو دولة تسيطر على مساحات شاسعة من داخل العراق وسورية وليبيا، تمتلك قدرات عسكرية أميركية فائقة وخطوط اتصالات وسيطرة مطلقة على بنية تحتية وقدرة على مواجهة الجيوش التقليدية، وذلك ما كان يفتقر آليه تنظيم «القاعدة». فكيف للمجتمعات العربية والأنظمة الزائلة والقائمة القضاء على تنظيم أسطوري بدمويته، يمثل أكثر التنظيمات الارهابية ثراء في التاريخ؟ وما المغزى الحقيقي لاعتراف أوباما بإمكانية تحجيمه واستحالة القضاء عليه؟ فهل ذلك لقصور أداء الآلة العسكرية الأميركية؟ أم لتقديرات المحاباة والحفاظ على البنوة السياسية والاستراتيجية؟ أم لعصمة السمعة الأميركية التي أصبحت نهباً للكثير من الكيانات الدولية؟ وهل يمثل «داعش» الآن واقع الحلم المستقبلي لـ «القاعدة»؟ وهل كانت «القاعدة» هي المقدمة المنطقية والاستراتيجية نحو طمس الحدود السياسية في الشرق الأوسط وكانت «داعش» هي الترجمة الفعلية لتجليات المخطط الغربي الأكبر؟ وهل يتشابه مستقبل «داعش» مع ما كان من مستقبل «القاعدة»؟ التاريخ يقول نعم!
* كاتب مصري |