في مثل هذا اليوم قبل عشر سنين، حقق اللبنانيون ما لم يكن أحد يتوقعه: طووا صفحة الحرب وتضامنوا بعضهم مع البعض، فانهوا وصاية واستعادوا استقلالاً.
شهد هذا اليوم التاريخي اختباراً ملموساً لقانون يميّز حياتنا الوطنية وهو أن الوحدة الداخلية شرط الاستقلال. هذا القانون الذي لخصه جبران تويني بقسمه الشهير الذي دعا فيه المسلمين والمسيحيين إلى "البقاء موحدين إلى أبد الآبدين دفاعاً عن لبنان العظيم".
كذلك أحدث هذا اليوم تحولاً حقيقياً في السياق التاريخي لفكرة العيش اللبناني المشترك. فحتّى تلك اللحظة كان معظم التواريخ الأساسية لحكاية لبنان من صُنع حيويات طائفية معينة: فكرة لبنان الكيان كانت في الأصل فكرة تمثّلها الأمير فخر الدين الثاني "الدرزي" (1572 – 1635)، ودولة لبنان الكبير (1920) عدّت إنجازاً مارونياً، واستقلال لبنان (1943) كان، في المقام الأول، بفضل لقاء الطائفتين المسيحية والسنية على هذا الاستقلال، وتحرير لبنان من الإحتلال الإسرائيلي (2000) أتى أيضاً، وفي المقام الأول، بفضل جهد الجنوبيين بغالبيتهم الشيعية.
وحده 14 آذار لم يرتبط بأي طائفة على وجه الحصر أو التعيين. إن استقلال لبنان الثاني، الذي أعقب أطول حروبه الأهلية، لم يكن قابلاً للمصادرة الفئوية. فأيُّ طرف مشارك في الحركة الاستقلالية لم يستطع إدّعاء أبوتها، لأنها كانت، بواقع اتساعها وشموليتها (أكثر من ثلث اللبنانيين المقيمين في البلاد خرج إلى الشارع)، غير قابلة للإختزال في واحد من مكوناتها، أكان سياسياَ أم طائفياً.
لكن هذا اليوم التاريخي لم يف بوعوده كلها بسبب الحرب التي شنّها النظامان السوري والإيراني وايضاً بسبب الأخطاء التي ارتكبتها الحركة الاستقلالية – بدءا بتهميش الشريك الشيعي في 14 أذار وصولاً الى مشروع القانون الانتخابي المعروف ب"الارثوذكسي" - والتي دفعت سمير قصير، في هذه الصفحة تحديداً من جريدة "النهار"، إلى الدعوة إلى "إنتفاضة ضمن الإنتفاضة" (1 أيار 2005).
نحن اليوم، في الذكرى العاشرة لانتفاضة الاستقلال، بأمس الحاجة إلى إنتفاضة جديدة لمواجهة الأخطار التي تتهددنا جراء هذا العنف الذي انطلق من سوريا وبات اليوم يهدد العالم العربي بحرب دينية تشبه إلى حدّ بعيد "حرب الثلاثين سنة" التي دمّرت المجتمعات الأوروبية في مواجهات دامية ما بين الكاثوليك والبروتستانت خلال القرن السابع عشر.
وهذه الانتفاضة تبدأ بكلمة واحدة، كلمة "كفى": كفى تبريراً للعنف في مواجهة بعضنا البعض، وكفى استعانة بالخارج ضد الداخل، وكفى اختزالاً للانسان بطائفة والطائفة بحزب والحزب بقائد، وكفى تحويراً للدين من أجل توظيفه في السياسة...
"كفى" كلمة اعتراضية لا تؤسس لرؤية ومشروع سياسي، لكنها تفسح في المجال لبلورة موقف أخلاقي يعيد الاعتبار الى السياسة ويمكنها من رسم الطريق لحماية هذا الوطن الذي بات يمثل اليوم من خلال تجربته في العيش المشترك حاجة عربية وحاجة عالمية. فليس في هذا العالم بلد يتشارك فيه مسلمون ومسيحيون، بصفتيهم هاتين، في إدارة دولة واحدة، وكذلك ليس في العالم الاسلامي بلد يتشارك فيه سنةٌ وشيعة، بصفتيهم هاتين، في إدارة الدولة ذاتها. |