من حق المسيحي اللبناني ان يقلق بل ان يرتعد امام العنف المذهبي المتبادل وازاء التشدد الاصولي الاستئصالي المنفلت من اية قوانين او ضوابط. من حقه ان يتساءل عن مستقبل ابنائه في منطقة يعاد ترسيم خرائطها وبعثرة دولها، طوائف واثنيات ومذاهب وقبائل، في مسار مخالف للتوجه الحداثي، وصعود الدولة القومية الذي شكل سمة اساسية وجوهرية من سمات الحداثة.
ان المخاوف والشكوك التي تساوره فيما هو يراقب اندثار اقليات الامة العربية والعبث بوجودها وحضارتها وتاريخها عبثاً يصل الى حد الاقتلاع، تزجّه في اسئلة مربكة حول وجوده المهدد والموقف الناجع الذي يمكن ان يتخذه في مواجهة هذا التهديد الوجودي، يفاقم في إرباكه وتساؤله استهانة قادته السياسيين والدينيين على السواء بالاخطار الفعلية المحدقة به من كل جانب.
لقد سبق ان واجه المسيحيون اللبنانيون تحديات كبرى وان لم تكن من الشدة والعنف اللذين يسمان الحالة الراهنة، فكان ان انبروا لمواجهتها بأشكال شتى وفي كل الاتجاهات. ازاء حرب 1860 الأهلية والمجازر التي طاولت المسيحيين طرح المعلم بطرس البستاني في نشرته "نفير سورية" تصوراً لصون الوجود المسيحي في لبنان والشرق قوامه الدولة الوطنية اللا طائفية التي تحتضن ابناءها من دون تمييز او تفريق، وإزاء اضطهاد الترك لعرب المشرق طرح نجيب العازوري وحدة المشرق العربي في وجه التتريك، ورداً على الفقر والحروب الاهلية نادى فرح انطون بالاشتراكية وفصل الدين عن السياسة. ولم يقف المسيحيون الاسلاف عند هذا الحد، فكان نجيب العازوري اول من حذر من خطر الصهيونية الوجودي، وكان فؤاد الشمالي كما وصفه يوسف ابراهيم يزبك "اول صرخة عمالية ماركسية سمعها لبنان" في وجه الظلم الطبقي والبؤس الاجتماعي، وتجاوز فرج الله الحلو الهم الوطني الى مشارف الاممية الاشتراكية، ودعا امين الريحاني الى الوحدة العربية الشاملة للارتقاء بالعرب الى مصاف الامم القادرة على الانخراط في صنع التاريخ، وتحدث كمال الحاج عن صراع الإلغاء بين اسرائيل الصهيونية وبين لبنان بمسيحييه ومسلميه.
ازاء هؤلاء الاسلاف المتنورين الذين تصدوا لاشكالية الوجود المسيحي من منحى عقلاني جذري كان يمكن ان يحدث انقلاباً في التاريخ اللبناني والعربي وان لم يكتب له ما كان يأمل دعاته من النجاح والفعالية، تفتقد الساحة المسيحية اليوم هذا المنحى بينما يواجه المسيحيون اخطاراً كيانية غير مسبوقة في تاريخهم. فأية اجابة عند قادة المسيحيين اللبنانيين على خطر الوجود المهدد، واي تصور لما يمكن ان ينتظر المسيحيين من مصائب واهوال في ظل انفلاش الاصولية الظلامية في مشرق العالم العربي ومغربه؟ كيف سيواجهون محاولات الالغاء والتهجير والاستئصال وبأي منهج واي فكر واية وسيلة؟ هل سيلوذ هؤلاء الى فكر الاسلاف العلماني بعد ان شهد هزيمته في موازاة الاستشراء الاصولي؟ هل سيعودون الى الشعارات القومية التي ثبت خواؤها حتى عند اكبر دعاتها؟ هل سيطرحون من جديد مقاومة الصهيونية كسبيل لتوحيد العرب في حين لم يعد الخطر الصهيوني من اولويات الحـركات السياسيـة المسيـحيـة ولم تـعـد هــذه تحتل حيزاً اساسياً في تطلعاتهم الفكرية؟
واذا كانت كل رهانات التنويريين قد باتت في ذمة التاريخ ومن دون سند في حاضرنا اللبناني، فإن ما يبدو من رهانات القادة المسيحيين ومن اطروحاتهم السياسية لا يحمل في رأينا اية تصورات انقاذية، ولا يذهب في اتجاه صياغة رؤية مستقبلية كفيلة بتجذير المسيحيين في أوطانهم وصيانة الدور الحضاري التاريخي الذي اضطلعوا به دائماً. بعض هؤلاء لم يعد يرى في الصهيونية خطراً وجودياً، وبعضهم يراهن على سقوط الانظمة التسلطية العربية من دون تقدير الاخطار التي تمثلها بدائل هذه الانظمة، وبعضهم لا يملك اي تصور لجذرية الخطر الاصولي ولا كيفية مواجهته وبأية وسائل، وبعضهم لا يعبأ بمعاناة المسيحيين الاقتصادية والاجتماعية وقد باتوا في اكثريتهم فقراء يبحثون عن عمل او ملاذ في بلد يمنحهم تأشيرة هجرة. بعض هؤلاء لا يزال يعتصم بخطاب طائفي فائت لتعبئة جماهير لم تعد تعبأ الا بلقمة عيشها وتعليم ابنائها، فيما الاقطاع السياسي والطائفي يتمدد مبتلعاً آمالها وطموحاتها في حياة كريمة، وبعضهم لا يزال يراهن على حماية الغرب الذي لا يحسب حساباً الا لمصالحه ولم يبرهن على مدى تاريخنا الحديث والمعاصر على غيرته على الوجود المسيحي اللبناني او معاناة المسيحيين المشرقيين.
ان التحديات الوجودية الكبرى التي يواجهها المسيحيون اللبنانيون والمشرقيون والمصائر التي تنتظرهم تستلزم في رأينا، نظراً الى جسامتها، تصورات عبقرية خارجة عن المتداول على الساحة السياسية المسيحية. تصورات لموقع المسيحيين في لبنان والشرق ودورهم ورسالتهم. اي مسار سيتجهون فيه؟ اي فكر سيتبنون؟ اية علاقات ستربطهم بمكونات لبنان الاخرى وبمكونات المنطقة عموماً؟ بأية صيغة سيلتزمون؟ اي نظام يتطلعون اليه؟
تساؤلات حاول الرواد المسيحيون الافذاذ الاجابة عنها، كل على طريقته من فارس الشدياق وبطرس البستاني واديب اسحق وفرح انطون وشبلي الشميل الى امين الريحاني وميشال شيحا وفرج الله الحلو وكمال الحاج. فهل ثمة اجابة لدى قادة الفكر والسياسة من مسيحيي لبنان اليوم؟
ما يقلقنا ان تساؤلاتنا هذه قد لا تكون مطروحة لدى هؤلاء.
* كاتب لبناني
|