شهدت السنوات الأربع التي أعقبت الثورة المصرية أحداثاً وتحولات غريبة ومتناقضة، وانقساماً في المجتمع والسياسة، وتسييساً للإعلام، وسيولة في الرأي العام، ما أنتج سرديات وقراءات متحيزة لأحداث الثورة، واستخداماً مفرطاً لفزاعات الفوضى والتكفير والإرهاب والتخوين والمؤامرة لتزييف وعي الناس وفرض الإذعان العام. والكارثة أن كل أطراف الصراع تورط في هذه الممارسات الخطابية والسياسية من دون إدراك مخاطرها في إضعاف المجال العام ونشر اللامعنى والتهميش والإحباط بين المواطنين خصوصاً الشباب الذي فجر الثورة.
حالة الصراع والاستقطاب بين النخب في مصر تدمر إمكانات العيش المشترك في ما بينها، وتقضي أيضاً على مشروعيتها، وعلى مشروعية الثورة نفسها، وتتوافر ظواهر كثيرة تؤكد انصراف كثيرين من المصريين عن الاهتمام بالسياسة، بالمعنى الواسع للكلمة، حيث اختفت عشرات الائتلافات والحركات الشبابية الثورية وغير الثورية، وتراجعت معدلات مشاركة المصريين في الانتخابات والاستفتاءات مقارنة باشتراكهم في الاستحقاقات الانتخابية في العام الأول للثورة، والأهم أن هناك حالة من الإحباط واللامعنى والشك في جدوى الثورة، وحقيقة ما جرى، وجدوى الانتخابات وإمكان التغيير أو حتى الإصلاح، تلخصها المقولة العامية المتداولة «مفيش حاجة اتغيرت»! كلمات قاسية لكنها تلخص كيف أصبحت ثورة يناير ورمزية التحرير والمليونيات الهادرة محل شك، فهي إما مؤامرة خارجية، أو مؤامرة «إخوانية» أو مؤامرة من إنتاج «الإخوان» وأطراف خارجية! أما الشباب «أيقونة الثورة» التي تغنى بها الجميع فقد تحولوا إلى متآمرين أو عملاء أو مغرر بهم على يد «الإخوان» أو القوى الخارجية، وأحياناً مخربين، لذلك صدرت في حق بعضهم أحكام بالسجن، كما ينظر القضاء في اتهام حركة 6 أبريل، أحد مكونات أيقونة شباب الثورة، بممارسة الإرهاب، فضلاً عن الاتهامات الشهيرة لها بالتمويل من الخارج والعمالة.
في لامعنى ولاجدوى أحداث الثورة وأطرافها المتصارعة إشارات ومحطات بارزة، منها الإفراج عن الرئيس الاسبق حسني مبارك ورموز حكمه، وعودة بعضهم لممارسة العمل السياسي، وعدم إصلاح أجهزة الدولة، وتراجع مستويات حرية الرأي والتعبير واحترام حقوق الإنسان، ما يؤثر سلباً في الوعي العام، وبخاصة وعي جيل جديد من الشباب، الذي عاصر وعانى كل هذه التحولات، جيل تفتح وعيه على الإشادة بالثورة والتعاطف مع «الإخوان»، ثم تغيرت تلك الأحكام وتحطم كثير من الآمال عن بناء الوطن وتمكين الشباب، هذا الجيل الذي كان ما بين الـ 14 والـ 17 من عمره عند قيام الثورة، صار من حقه اليوم الحديث باسم شباب مصر، لكنه بلا شك حائر ولا يثق في صحة السرديات المتصارعة، وربما لا يثق أيضاً في ما يقدم له من أخبار ومعلومات بشأن ما يجري في الواقع، وينتشر عبر الإعلام الذي خلا تقريباً من التنوع وصار إعلام الصوت الواحد، إعلاماً يحشد ولا يناقش أو ينتقد. أتصور أن قطاعات واسعة من الشباب تشعر بالإحباط وربما الاغتراب، فلا توجد أمامها نماذج مشرقة وثابتة في وطنيتها وعطائها، ربما باستثناء من يسقط شهيداً، وحتى هؤلاء يوجد من يشكّك في رمزيتهم وصدق نواياهم وذلك بحسب موقعهم في السردية التي يروّج لها كل طرف!
السؤال المطروح على الشباب والوعي العام بشكل صريح أو ضمني هو لماذا الثورة وما جدواها إذا كان عصر مبارك في كثير من السرديات، وبعضها شبه رسمي، أفضل من حكم «الإخوان»، ومن سنوات ما بعد الثورة من زوايا عدة منها الاستقرار والأوضاع الاقتصادية والغلاء وحفظ دماء المصريين. ويكتسب السؤال دلالات أعمق بعد حصول مبارك ورموز حكمه على أحكام براءة من اتهامات قتل المتظاهرين والفساد، مقابل صدور أحكام قاسية ضد بعض قيادات ثورة كانون الثاني (يناير) من الشباب الذين أسهموا أيضاً في 30 حزيران (يونيو). لكن حتى هذه الثورة لم تسلم من السرديات المتصارعة فهي ثورة عند البعض، وموجة ثورية عند الآخرين، وانقلاب عسكري عند «الإخوان» وأنصارهم، لذلك ربما يمتد التشكيك واللامعنى وعدم الثقة إلى ذلك الحدث الجماهيري العظيم.
في إطار تحولات اللامعنى ما عاد «الفلول» رموز نظام مبارك معزولين أو مرفوضين سياسياً أو اجتماعياً، أما جماعة «الإخوان» فقد انقلبت الأحكام والسرديات بشأنها مرات عدة في الصحافة والإعلام وفي الخطاب العام، فهي قبل 25 كانون الثاني جماعة مضطهدة تاريخياً، تشارك على استحياء وبانتهازية في معارضة نظام مبارك، لكنها شاركت في الثورة وروّجت للمظلومية التاريخية التي وقعت عليها، ثم ما لبثت أن هيمنت على البرلمان والحكم، وسعت إلى «أخونة» الدولة والمجتمع، فكان الصدام مع غالبية الشعب والجيش، وصولاً إلى أنها جماعة إرهابية، توظف الدين في السياسة ولا تحترم مدنية الدولة ولا سيادتها الوطنية، ومع ذلك فإن الجماعة لم تختف، ولا تزال تمارس الإرهاب الفكري والمادي، وتنتج خطاباً جديداً عن مظلومية 30 حزيران (يونيو) ورابعة وما بعدها.
التحولات الحادة وعدم الاتفاق واللامعنى شملت أيضاً علاقة الجيش بالقوى المدنية، وعلاقة الشعب بالجيش، ففي الأيام الأولى للثورة ارتفع شعار «الشعب والجيش إيد واحدة» ومع أخطاء المجلس العسكري انقلب الشعار وقطاعات واسعة من الرأي العام إلى «يسقط حكم العسكر»، ثم سرعان ما ساد شعار» الجيش والشعب إيد واحدة» مع انضمام الشرطة أيضاً إلى ذات الشعار، وتبدو تلك التحولات منطقية ومنسجمة من وجهة نظر غالبية القوى السياسية، لكن في الطرف «الإخواني» ثمة تشكيك ورفض واتهامات تضاف إليها اعتراضات من شباب بعض القوى المدنية عن تعاظم دور الجيش في السياسة والاقتصاد وظهور بونابرتية جديدة.
عدم الاتفاق على أحداث الثورة المصرية وأطرافها يدعم من اللامعنى والاغتراب، ويغذي آليات التهميش والبعد من السياسة بكل صورها لدى قطاعات واسعة من المصريين لا تزال حائرة بين سرديات «الإخوان» وسرديات نظام 30 حزيران (يونيو)، ومن ثم فهي تهرب إلى البحث عن لقمة العيش أو التطلع إلى الاستقرار وإيجاد فرص عمل. وأعتقد أن أحدث محطات وإشارات الإحباط واللامعنى كان تأجيل الانتخابات البرلمانية بسبب عدم دستورية بعض مواد قانون الانتخابات وتقسيم الدوائر الانتخابية، ما زاد الارتباك في المشهد السياسي والحزبي المأزوم أصلاً (أحزاب ضعيفة وتفتقر إلى الأفكار والبرامج)، حيث تأخر الاستحقاق الانتخابي لأكثر من سنة كاملة، ومع ذلك ظهرت تأويلات تبرر هذا التأجيل، في الوقت الذي حدث توسع غير مبرر أحياناً في إصدار رئيس الجمهورية قوانين بقرارات، كما لم يستمع أحد في الرئاسة أو الحكومة لانتقادات الأحزاب والخبراء لمواد قانون الانتخاب والتي لا تدعم الحياة الحزبية وتؤدي إلى ظهور برلمان ضعيف ومشتت ويهيمن عليه رأس المال السياسي والأسري والقبلي ونواب الخدمات والدولاتيون السابقون. والمرجح أن التعديلات التي ستدخل على قانون الانتخابات لن تغير من التركيبة الضعيفة المتوقعة للبرلمان القادم أو تدعم الأحزاب، حيث ستقتصر على مراعاة بعض الجوانب الشكلية حتى لا تقع في محظور مخالفة الدستور.
ارتباك الاستحقاق الانتخابي يقلص فرص العمل السياسي، ويشكّك في جدوى الانتخابات والإصلاح، لا سيما أن هناك توقعات بضعف معدلات التصويت في الانتخابات البرلمانية المقبلة، ما يعني اتساع دوائر التهميش السياسي والشعور بالإحباط العام والاغتراب، وأحد أهم أسباب التهميش يرتبط بعودة هيمنة الحكومة والأجهزة الأمنية، واستبعاد الحلول السياسية لصالح الحلول الأمنية، واستبعاد الوزراء السياسيين والاعتماد على التكنوقراط، وقد جاء التعديل الوزاري الأخير ليؤكد الطابع التكنوقراطي للوزارة الحالية وغياب الرؤية، وعدم الاهتمام بالحوار المجتمعي، ويلاحظ هنا أن سوء الأداء التشريعي الذي تمارسه السلطة التنفيذية (في ظل غياب البرلمان) وعدم الاستماع إلى آراء من خارج الحكم، كان أحد أهم أسباب الطعن في دستورية قانون انتخاب البرلمان، الذي يتوقع أن يجري في الخريف المقبل.
* كاتب مصري
|