بقلم نجلاء حمادة تحية إلى جمعية "كفى عنف واستغلال" من الواضح أن الآية التي تقول "اضربوهنّ" حيث يسبقها "اهجروهنّ في المضاجع" (صورة النساء، 34)، تقصد بالمعنيات بإمكانية الضرب الزوجات وليس سواهنّ من النساء، فيكون من تسمح لهم أو تطلب اليهم ضرب زوجاتهم في حال الخوف من نشوزهن هم حصرياً الأزواج لا جميع الرجال. لكن الإسقاط الذكوري وسّع إمكانية الضرب ليطال الشقيقات والبنات والخادمات واحياناً الأمهات، وكاد يلغي شرط الضرب ، أي الخوف من النشوز، فيصبح حق الضرب غير المشروط متاحاً لكل الرجال حيال كل من تواجدن تحت سقوف بيوتهم من النساء. وهذا الإسقاط مع تمويه المعنى المراد صنع لنا بيئة تعيش النساء فيها مرعوبات من إمكانية تعرّضهنّ للضرب في كل بيت يوجد رجل فيه.
ولأن الشعور كثيراً ما يسبق الوعي، بتّ الآن أفهم شعوراً بالراحة والطمأنينة خبرته عندما كنت أزور صديقة الدراسة التي لم تشتمل أسرتها إلا على أم وشقيقة. كان بيتهنّ واحة طمأنينة تامة، مغايرة تماماً للشارع المليء بعدائية المتحرشين والذي لا يخلو من الوجوه المغلقة الغاضبة للمتعصبين، من ينظرون إلى النساء بشره وعدائية. وكان بيتهن مكاناً لا تخاف الواحدة فيه من عضلات أقرب الناس اليها، بدل أن تجد في تلك العضلات ذاتها حماية وعضداً في مواجهة عدائية العالم الخارجي.
وبما أننا لا نناقش حكمة كلام اللّه بل نحاول أن نفهمها، نستذكر أن البيئة التي نزلت فيها الآية الكريمة كانت بيئة مختلفة، يسود فيها ال"نحن" بدل ال "أنا". ففي بيئة قبلية تحكمها شفافية العيش الجماعي وترسخ فيها أعراف وأصول تعاقب المستخفين بها، لا تضرب الزوجة بتبرير واه. وإن حصل هذا فغالباً ما يُستنفر لنصرتها أقرباؤها، من يلتحمون معها برباط دم لعلّه الأقوى بين الجماعات العربية. أما في بيئة تتكوّن من أفراد تعلّموا التحرّر من الموروثات، وضمن عائلات نووية يسود كل منها رجل مطلق السلطة، مهما كبرت أو ضؤلت مؤهلاته العقلية والخلقية، فلا نصير للزوجة أو للشقيقة أو الإبنة أو عاملة المنزل إلا حماية القانون وشهامته وعدالته. فإن لم ينصرهنّ غدون في قبضة سلطة مطلقة لا رادع لها ولا منطق خارج ضمير الرجل الضارب تحتكم اليه.
وعندما نستعير من الغرب انساقاً مجتمعية ولا نردفها بالاحتكام لقوانين كالتي لديه، وعندما نتحرّر من بعض تقاليدنا بانتقائية تضع الشعور بالمسؤولية والرحمة وواجب الدفاع عن الشقيقة والإبنة في وجه زوج ظالم في عداد ما نتخفّف منه، قد ننسى شرع اللّه الذي ندّعي الاحتكام اليه.
ويصعب إغفال علاقة إسقاط الضرب هذا وسوء قراءتنا للنص الديني بنوعية المواطنة التي تنتجها مجتمعاتنا. فما يجعل جميع نسائنا محكومات بسطوة الخوف وهاربات من مواجهة العنف دون الاستفادة ممّا يتيسّر من جدلية عقلانية أو من حكم القانون وعضد القربى، شبيه بما يولد مواطنة عشوائية تقفز بين المآزق دون تركيز على أصول ومخططات، حديثة كانت أم تقليدية متوارثة، تضيع معها نطاقات الحقوق والواجبات ويختلط فيها ما يصح وما لا يصحّ. يبدو أننا أسقطنا "أضربوهنّ" ليس فقط على جميع النساء، بل على جميع النساء والرجال والأولاد ممن لا يقعون في أعلى أهرامات سلطة تخيف وتقمع دون أن تسوس وتعدل. وهكذا وصلنا إلى حال يطغى فيه الرعب من الأذى الجسدي على الناس جميعاً ماعدا واحداً أو أكثر قليلاً في قمة سلطة يمارسونها وكأن اللّه سخّر لهم كل من حولهم.
ولعلّه لن تستقيم لنا أوطان ولا عائلات إن لم نحرّر الناس من الرعب من الأذى الجسدي. فالخائف لا يعرف كيف يفكّر وإن فكّر فهو لا يجرؤ على التعبير عمّا يعتمل في ضميره. بل الخائف لا يعرف لذة العيش ولا يقدّر نعمة الحياة التي يغدقها اللّه عليه، وقد يراها عبئاً ثقيلاً يستنفدها في الهرب من الأذى أو توقّعه. ومن يطغى الخوف على نساء أسرته لا بدّ أن يستقي منهنّ هذا الخوف ممن هم في مواقع السلطة، ممّا يؤدي به إلى القبول بتوارث السلطة وبتحجّر المجتمع، بقبول كل بال ومؤذ وهجين خوفاً من مواجهة القوة أو مناقشتها أو محاولة تغييرها.
مرعوبونا من السلطة، من رجال ونساء يفقدون خاصة إنسانية أساسية هي التعلّم من الماضي ورسم معالم المستقبل الذي يريدون أو يتوقون اليه. فماضيهم إما مؤلم أو ذليل أما غدهم فيؤمنون بأنه إعادة للماضي فيشفقون منه وقد يتمنون في قرارة نفوسهم لو أنه لا يأتي أبداً.
|