يحار البعض في أمر ليبيا وتصعب عليه معرفة ما آلت اليه
الأوضاع فيها وتفسير الوقائع وأسبابها. أما البعض الآخر فيستعجل في رده النزاع الحالي، والذي ينذر
بانهيار ليبيا، إلى واحد من محركاته المتعددة يستعجل الى القول إن المواجهات تدور بين الاسلاميين
والليبراليين وهي جزء من حرب تتعدى ليبيا إلى العالم العربي كله، أو التأكيد أن ما تشهده هو في حقيقة
الأمر صراع قبائل أو مناطق، أو أنها ليست إلا الوجه الآخر من العجز عن تقاسم
السلطة. صحيح أن لكل من التوصيفات الثلاثة ما يؤيده لكن النظر إلى كل منها
في معزل عن الآخر يقع في المبالغة وفي نواقص التفسير. فعلى سبيل المثال يغيب عن القائلين
بقيام الحرب بين الاسلاميين والليبراليين أن الفريقين ليسا كتلتين منسجمتين ولا تصدق التسمية في
الاعتراف بالتنوع داخل كل منهما. فالفريق الأول يضم كتائب ثوار مصراته وليسوا كلهم من الإسلاميين،
وحلفاؤهم ليسوا كلهم إسلاميين، فضلا عن تشكيلات عسكرية إسلامية. أما الفريق الثاني فينضوي في صفوفه
ليبراليون ومحافظون وتقليديون وفيديراليون وقبليون وفئة من أنصار النظام
السابق.
ويرى اصحاب النظرة الثنائية أن الصراع في ليبيا هو جزء من مواجهة أكبر
في المنطقة كلها، بين الإسلاميين وأعدائهم أو بين من سُمّيا المحورين: المصري- السعودي- الإماراتي من
جهة والتركي – القطري من جهة أخرى. إلا أن انخراط هذه الدول في مجريات النزاع الليبي، وإن كان فعليا،
يبقى محدود الحجم والأثر. ولا يبدو لنا أن التدخل الخارجي الحاسم ليس مرجحاً بفعل صعوبته وخطورته وكلفته
العالية و المتأتية من تعقيدات الوضع الداخلي ومن التردد الذي تطبعه موازين اقليمية ودولية متغيرة
وأعراف، هذا إن لم نقل شيئا عن الشرعية الدولية. باختصار، لم تصبح ليبيا في المقام الأول ساحة صراع
أقليمي أو أرض منازلة، كما جرى في لبنان في بعض مراحل من حروبه المتعاقبة.
على
صعيد آخر، وفي ما يتعلق بالمناطق والقبائل، فلا بد من الإقرار بأن مجلس النواب المتخذ في طبرق مقرا له
منه يتمتع بنفوذ أكبرفي الشرق مما في انحاء ليبيا الأخرى. غير أن ذلك لا يعني أن الفريق الآخر الذي
يسيطر على طرابلس ومصراته وعدد كبير من المناطق والمدن الليبية لا نفوذ له في الشرق. فالثوار الأسلاميون
يمتلكون قدرة لا يستهان بها في بنغازي، ويسيطر المتطرفون على مدينة درنة التي أعلنوا منها قيام إمارة
إسلامية. من جهتها لم تعد القبائل تشكيلات اجتماعية متماسكة كما كانت في السابق، والكثيرون من أبنائها
خرجوا من معاقلها وانتشروا في المدن الليبية كافة وفقد شيوخها وحكماؤها الكثيرمن نفوذهم السياسي وانحسرت
قدرتهم على التعبئة ورص الصفوف ضد القبائل المعادية أو المنافسة. لكن هذا الانحسار النسبي لا ينسحب على
كل القبائل بالدرجة نفسها.فالرابطة القبلية ما زالت قوة أفعل بين قبائل الشرق. لذا لا يمكن إغفال
التضامن القبلي وذاكرة العادات القبلية والتي تلاعب بها القذافي من دون الانزلاق إلى التعميم الذي يرى
ليبيا كلها بصورة القبائل المتناحرة.
أما مسألة السلطة فلها وجهان. لقد بدأ
الصراع على السلطة في ليبيا قبل إعادة تكوين الدولة، والصراع هو في حقيقة الأمر على الغنيمة، وهي عائدات
النفط التي توزع على الليبيين يصيغة مرتبات، لعل المستفيدين منها بلغوا الثمانين في المئة، ودعم للسلع
الاستهلاكية وإنفاق على المشاريع وعلى المسلحين (ولنا عودة الى ذلك) وتقديم الإعانات لمجموعات ضغط
مرتبطة بهم. يبقى الوجه الآخر وهو سياسي ورمزي يتعلق بالخلاف على الشرعية. باستطاعتنا النظر
اليه من خلال السرديتين اللتين يقدمهما الفريقان المتحاربان. تقول السردية الأولى أن ما يجري في ليبيا
هو حرب الإرهابيين على الدولة. وترى الحكومة المنبثقة من مجلس النواب المنتخب في حزيران الماضي، أنها
تتصدى للإرهابيين وهي تعتمد على اللواء المتقاعد خليفة حفتر والقوى التي احتشدت تحت راية "عملية
الكرامة". ولا يتردد مجلس النواب في وصم القوى المعارضة له ولحفتر كافة بالارهابية. وبطبيعة الحال تستند
هذه السردية إلى تأكيده أنه صاحب الشرعية من حيث هو مجلس نواب منتخب.
من
جهتها، مالت السردية الثالثة، في المرحلة الأولى من الصراع الحالي، إلى التشديد على الشرعية الثورية
مضمرة أن هذه الشرعية تسمو على الشرعية الإنتخابية. إلا أنها تضمنت أيضا طعنا بشرعية مجلس النواب
لانعقاده في طبرق فيما مقره بحسب الإعلان الدستوري المعدل هو في مدينة بنغازي، ولأنه لم يجرِ تسليما
وتسلما مع سلفه المؤتمر الوطني العام وفق الأصول. واليوم بات الطعن بشرعية مجلس النواب أقوى حجة عند
أصحابه نتيجة قرار المحكمة العليا القائل بعدم دستورية التعديلات التي أقرها المؤتمر الوطني العام في
أذار الماضي على الإعلان الدستوري والتي جرت الإنتخابات على أساسها.
ويطالب
الأولون، باشكال متفاوتة، "المجتمع الدولي" بالتدخل في ليبيا لحماية الشرعية ومحاربة الإرهاب ويأخذون
عليه تقاعسه في نجدة أصدقائه المفترضين. ويذهب بعضهم الى القول أن التدخل العسكري الدولي عام 2011 لم
يكمل المهمة ولا بد له من إنجازها. أما الآخرون فيحذرون المجتمع الدولي من التدخل ويضعون أنفسهم في موضع
المدافع عن السيادة الوطنية الليبية. ويتعامى الطرفان، كل على طريقته، عن معطى جلي وهو أن التدخل
العسكري الدولي في ليبيا ليس في حساب أحد. التباسات العلاقة بالمجتمع الدولي
ليس الاهتمام الليبي بالمجتمع الدولي، بما يفعله أو لا يفعله، مستغربا،
وإن كان يبدو مصطنعا في بعض الأحيان. فلليبيا تاريخ مع الامم المتحدة يعود إلى عام 1951 حيث جرى التصويت
على استقلال ليبيا في الجمعية العمومية ولعبت المنظمة دور الولاّدة لليبيا الحديثة وساهمت في وضع
دستورها وتشكيل نظامها السياسي الفيديرالي (الذي تحول الى نظام الدولة الموحدة عام 1963
).
إلا أن فترة حكم القذافي بين عامي 1969 و2011 تميزت بالعلاقة العدائية مع
الامم المتحدة ومع الدول الغربية الدائمة العضوية في مجلس الأمن ورسخت مشاعر الارتياب في نيات العالم
تجاه ليبيا ومؤامرات الغرب عليها. ورغم أن هذه العلاقة تغيرت في الأعوام الأخيرة من حكم القذافي، بعد
رفع العقوبات والحصار عن ليبيا، لم يتبدد الارتياب ولم تتراجع مشاعر العداء. غير أن التدخل العسكري
لقوات حلف شمال الأطلسي بعد صدور قرار مجلس الأمن رقم 1973 ، الذي يسوغ حماية المدنيين بكل الوسائل أدى
إلى نوع من تسارع الزمن ومعه تغيّر المواقف. لم يأت التدخل المذكور، والذي تختلط دوافعه وتختلف من بلد
الى آخر، إلا بناء على طلب المجلس الوطني الانتقالي الذي اعتُرف به ممثلا للشعب الليبي، واجماع القوى
الثائرة على القذافي في الخوف من مجزرة وشيكة توعد بها في طريق زحف كتائبه نحو بنغازي. ويستتبع شبه
الاجماع في طلب التدخل الدولي، والإفادة مما حققه لجهة إسقاط القذافي، الاعتراف بأنه أنقذ الثورة من
هزيمة مؤكدة. لكن الإنقسام ظهر مذذاك بين مطالب بدور غربي أكبر في مساعدة ليبيا على بناء دولة ما بعد
القذافي، وبين متحفظ حيال هذا الدور أو مشكك فيه.
من جهتها، بدت الدول الغربية
التي تدخلت عسكريا مستعجلة في الخروج من ليبيا، وعمد مجلس الامن الدولي إلى إنشاء بعثة للأمم المتحدة
للدعم في ليبيا انحصرت مهمتها في مرافقة العملية السياسية وتقديم المشورة والمساعدة في بناء مؤسسات
الدولة الليبية الجديدة. صحيح أن قرارات مجلس الأمن بما فيها هذا القرار صدرت تحت الفصل السابع من شرعة
الأمم المتحدة، إلا أن بعثة الدعم كانت سياسية ومدنية لم تتوافر لها أدوات الاشراف الفعلي على عملية
البناء تلك. وباتت مهمتها، بعد ان رحب بها الجميع في مرحلة اولى، محط انتقاد فئة ممن توقع منا تدخلا
أفعل يتعدى التفويض المعطى لها الى العمل على محاربة الارهاب ونزع سلاح المسلحين وحماية المدنيين، فيما
توجست فئة أخرى من احتمالات قيامها بأي دور كهذا ما يضع ليبيا تحت الوصاية الدولية
المرفوضة. الإنتخابات ومسألة الإنتقال الى
الديموقراطية
ومما زاد الطين
بلة أن رغبة مجلس الأمن في الاسراع في دفع ما سماه عملية التحول الديموقراطي وتوهم الأمم المتحدة بأن
المسألة في متناول اليد تلاقيا مع إصرار المؤتمر الوطني الانتقالي على إجراء انتخابات عامة في أقرب وقت.
واشترك الجميع في الإعتقاد أن الانتقال إلى الديموقراطية طريق مرسوم يبدأ بانتخابات هيئة تأسيسية تنبثق
منها حكومة موقتة تليها عملية صوغ الدستور وتأتي بعدها انتخابات عامة على
أساسه.
وجرت الإنتخابات في تموز 2012 وبدا للجميع أنها جاءت ناجحة بكل
المعايير وأن نتائجها أظهرت اتجاهات أكثرية الليبيين السياسية. لكن فئة واسعة من كتائب الثوار لم ترَ
نفسها قادرة على المشاركة في العملية الإنتخابية، ترشيحا لا اقتراعا، وساورها الشك حيال الأحزاب التي
تشكلت بسرعة، لا سيما تحالف القوى الوطنية الذي حاز على أكثرية الأصوات. وانقسم الليبيون بين قائل أن
الثورة لم تستكمل ولا بد من اقتلاع النظام القديم من جذوره، وبين من أراد طي الصفحة والدعوة إلى
الاحتكام الى صندوق الاقتراع وإجراء مصالحة عامة.
لا شك في أن الاحتكام إلى
صندوق الاقتراع هو أول مداميك الديموقراطية لكنه ليس بذاته ضمانة لها. فالديموقراطية تتطلب حدا أدنى من
حكم القانون ووجود مؤسسات وثقافة سياسية وتمييزا بين الوصول إلى السلطة والاستحواذ على الدولة.
والانتخابات المستعجلة التي جرت لم يتوافر لها الحد الادنى من حكم القانون في بلد منقسم وغير مستقر.
ورأى البعض انها عمقت الشرخ بين أكثرية عددية، اتسعت صفوفها لمتعاملين مع النظام السابق، وأقلية
انتخابية ليست صغيرة وهي أفضل تنظيما وأشد فاعلية وبأسا.
لقد جرت الانتخابات
وكانت ليبيا مثل غابة من السلاح والمسلحين الذين استمر عددهم بالازدياد تحت مسميات كتائب الثوار حتى
بلغ، وفق اللوائح الرسمية، ما يفوق المئتين وخمسين ألفا. لم يكن في ليبيا لا جيش ولا شرطة بالمعنى
الحقيقي للكلمة. فكتائب القذافي التي قادها أولاده وأقرباؤه ومرتزقته والتي كانت أفضل تسليحا وتنظيما من
الجيش انهارت وقتل منها من قتل أو اعتقل أو فر. لم يكن الجيش النظامي والشرطة قادرين على القيام
بدورهما. كان هرم ضباطهما مقلوبا: أعداد كبيرة من العقداء (وهي الرتبة العسكرية للقائد التي لم يُسمح
بتجاوزها) وأعداد أقل من الضباط في الرتب الأدنى. وكان الضباط الكبار تخطوا سن التقاعد ولم يتح لهم أن
يتقاعدوا، وكان السواد الأعظم منهم محروما من العمل الميداني ومن التدريب المستمر وكانوا يداومون في
مكاتبهم ويحذرون من الشكاوى ضدهم خوفا من اتهامهم بالتآمر على النظام. المبعوث السابق للأمين العام للأمم المتحدة الى
ليبيا
|