تؤكد تجارب الانتقال الديمقراطي أن العدالة الانتقالية لا يمكن أن تكون مجرد محاكماتٍ عادلة، لمن تورطوا في أعمال الانتهاكات الجسيمة التي جرت في عهد الأنظمة التي ثارت عليها الشعوب. وتدل التجارب المختلفة في أفريقيا: روندا والمغرب وجنوب أفريقيا، أو أميركا اللاتينية: الأرجنتين وتشيلي والأوروغواي والسلفادور، أو أوروبا: إسبانيا والبرتغال، وغيرها من دول أوروبا الشرقية حديثا، أن جميع شعوب هذه البلدان اعتمدت على ثقافتها المحلية، والمصلحة الوطنية العليا والقواعد العامة الإنسانية، وما يمليه إكراه السياقات، ورتبت أمر ذاكرتها، حتى تغدو الثورة جزءاً من ذاكرة الجميع. في ذلك كله، ما يتم التفاوض حول الملامح والقسمات التي يراد للذاكرة أن تكون عليها.
تقسم الثورات المجتمع إلى شطرين، أو أكثر، قليلاً ما يستويان عدداً وعدة، ينتميان، عادة، إلى حقبتين: ما قبل الثورة، وما بعدها، ويتقاسمان تبعاً لذلك مشاعر نفور عداوة متبادلة. تختلف المسميات من نظام إلى آخر، ومن ثقافة إلى أخرى: رجال الماضي وأزلامه في مقابل حماة الثورة وأبنائها، فلول النظام البائد في مقابل أسياد الحاضر وأبطاله، من دون أن ننسى مختلف التسميات التي تخل بالكرامة البشرية، أصلاً في أحيان عديدة.
في حمى الانتخابات التشريعية والرئاسية التي تمر بها تونس، حالياً، كان موضوع العدالة الانتقالية ومنزلة الشهداء ومصير جرحى الثورة موضوعاً شبه محظور عند جل المترشحين، باستثناء قلة قليلة لم ينقل عنها الإعلام ذلك عمداً. وتعاظمت الشكوك والمخاوف مع تصريحات لبعض المترشحين، بمن فيهم من فاز حزبه بالمراتب الأولى في الانتخابات التشريعية. التحرش بهيئة الكرامة، وهي الهيئة التي نص عليها الدستور، وازدراء الشهداء والجرحى ونعتهم باللصوص وقطّاع الطرق والخونة لن تزيد إلا في إثارة الضغينة والكراهية.
في تونس، كانت مقاربة العدالة الانتقالية، للأسف، متعثرة، ذلك أننا لم نعط هذه المسألة حقها، وهرولنا إلى ترتيبات الحكم واستحقاقاته، من دون أن يتم حوار وطني عميق حول مسألة بهذه الخطورة. دهمتنا الانتخابات، على الرغم من تمدد فترة الحكومة المؤقتة، من دون أن تنطلق، بشكل فعلي، أعمال الهيئة تلك، ولعل غياب حوار فكري عميق حول معنى العدالة وأبعادها وجدواها، اختزلها في إجراءات شكلية، غلبت عليها استراتيجيات التموقع، وذلك ما يفسر ربما استقالات بعض أعضائها، وهي التي لم تفتح بعد ملفاتها، ما يرجح أن تكون واقعة تحت ضغوط واستراتيجيات، لا تمت بصلة إلى نبل المهمة والحاجة المجتمعية للمعرفة والغفران.
لم تنطلق العدالة الانتقالية، حتى عاد رموز النظام السابق، واحتلوا مواقع متقدمة في الإدارة العامة والإعلام، وغيرها من المواقع. وبعض من تحوم حولهم شبهات، وتعلقت بهم قضايا، عادوا نواباً في مجلس الشعب، وقد يمسك بعضهم وزارات حساسة فيها تختفي أسرار ملفات العدالة الأكثر حرجاً: الداخلية، العدالة، الدفاع، الصحة والخارجية. لسنا واثقين من رغبة القادمين الجدد إلى السلطة، في إنجاز مهام العدالة الانتقالية، والتعاون مع هيئتها الدستورية. كل التجارب، حتى التي تجنبت، مثلنا، العزل السياسي والاجتثاث المدمّر، رتّبت الأمر بشكل مختلف، ضمنت به إنصافاً ومصالحة معاً. المجر وبولندا، وهما أكثر النماذج تسامحاً مع رموز الأنظمة السابقة، منحت فرصة لهؤلاء، مشروطة بالاعتراف والتبرؤ شرطاً أساسياً لممارسة الحق في تولّي مناصب متقدمة في الإدارة العمومية، فضلاً عن مناصب سياسية بمثل هذه الخطورة.
في تونس، يحدث تخارج غريب بين القضاء العادي والعدالة الانتقالية، باعتبارها إنصافاً أخلاقياً قبل كل شيء. بت القضاء في قضايا عديدة وقانون العدالة الانتقالية لم يصدر بعد. يشعر المرء، في أحيان كثيرة، أنه في وطنين، تحكمهما ثقافتان ومنظومتان قانونيتان مختلفتان: لسنا في حالة شك في نزاهة القضاء، ولكن، هل كنا، آنذاك، شعبين؟
حتى تجيب شعوب ابتليت بهذه المفارقات المضنية عن ذلك السؤال، ابتكرت صفقات تاريخية كبرى، تمت في مراحل الانتقال الديمقراطي بالذات، انبنت جلّها على منطق لا خاسر فينا والربح للجميع، حتى لا يبدو أحد منهزماً في النهاية.
لا يتعلق الأمر بمجرد تعويضات عن سنين الحرمان والبطش والأذى الذي لحق بمن ناضل، فلا عزاء فعلياً لسنين العمر التي قصفت، أو هدرت، ولكن الأمر يتعلق، كما ذكرت، بترتيب الذاكرة وهندستها بشكل يليق بالضحايا أولاً. علينا أن لا نرى في تكريم هؤلاء انتصاراً على شعب آخر. سيربح الوطن حينما يكرم شهداؤه، ويكافأ مناضلوه من دون تمييز، ومن دون انتقام أو تشفً.
إن من يسوق انتصاره الانتخابي انتصاراً على الشهداء والضحايا سيكون مآله خسراناً مبيناً، وإن بعد حين.
التجارب الناجحة للعدالة الانتقالية لم تكن معزولة عما يحدث من إصلاحاتٍ، تهم مجالات أخرى، كالإعلام والقضاء والتربية، فما من عدالة انتقالية بلغت مرادها من دون أن تكون تلك المجالات إسناداً يوطنها. أما نحن فلا تصنيف يؤوينا في ما قمنا به، إلى حد الآن.
نزعم أننا حالة متفردة، بما أنجزنا من ثورةٍ، هي فاتحة ثورات القرن الواحد والعشرين. كانت ثورتنا سلمية، سقط فيها الحد الأدنى من الشهداء، هم في الأصل بعدد الإنسانية جمعاء. ولكن، ظلت أسئلة عالقة، تتعلق بملابسات ما حدث، فضلاً عن تحديد المسؤولية القانونية وحتى الأخلاقية. إذا قدر لهذه البلاد أن تطوي مبكراً ثورتها، وأن يتغمدها التاريخ برحمته الواسعة، فإن تجاهل الجروح، خشية فتحها مجدداً، لن يؤدي إلا إلى نزيف صامت. يضعنا تاريخنا في مفارقاتٍ، عجيبةٍ أحياناً، منها أن يصبح الجلاد وصياً على ضحاياه، هل يرافقهم إلى أبواب الرحمة، أم إلى الجحيم؟
أيام قليلة فقط تفصلنا عن ذكرى اندلاع الثورة، ولكن، نحييها، هذه المرة، في ظل حكومة جديدة. سيحلم بعضنا، وتنتاب آخرين كوابيس في انتظار عدالة متأخرة، يودّ بعضهم ألا تمر إطلاقاً.
المهدي مبروك وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي. |