قضي الأمر، فغياب وحدة قرار المعارضة واختلاف مواقف أحزابها وحركاتها تجاه الانتخابات البرلمانية بين مشاركة ومقاطعة أجهز على فاعلية خيار المقاطعة الجماعية وحدّ كثيرا من إمكانية صناعة أزمة شرعية لمؤسسة الحكم بحرمانها من الواجهة التنافسية والتعددية الزائفة. يصبح التساؤل المطروح أمام أنصار خيار المقاطعة الذي أخفق ودعاة المشاركة بين صفوف المعارضة الوطنية المتوجسة من القيود المفروضة على مرشحيها وحملاتها الانتخابية هو ما الذي يتعين عليهم فعله للمقاطعة بإيجابية أو المشاركة دون تقديم صك شرعية لانتخابات غير نزيهة.
اقتناعي أن عليهم جميعا التعامل بجدية تامة مع مسألة الرقابة المحلية على العملية الانتخابية، منذ اليوم الأول لفتح باب الترشح للانتخابات (كان ذلك في الثالث من الشهر الجاري) وإلى ما بعد يوم الانتخاب (28 من الشهر الجاري). والمهمة الرئيسية هنا هي إصدار ونشر تقارير المتابعة الدورية والدقيقة لإجراءات تسجيل المرشحين وللترخيص من قبل اللجنة العليا للانتخابات لمنظمات المجتمع المدني للقيام بالرقابة، وللإنفاق على الحملات الانتخابية والشعارات المستخدمة فيها، ولشبهات استغلال مرشحي "الوطني" للتداخل بين الحزب والمؤسسات الرسمية بتوظيف إمكانات الدولة لمصلحتهم، وللقيود المفروضة على العمل الجماهيري لمرشحي المعارضة، ولمدى حيادية التغطية الإعلامية للحملات الانتخابية. والمؤكد أن إصدار مثل هذه التقارير يتطلب عملا قياديا واسعا ومنظما يمكن شباب الأحزاب والإخوان والجمعية الوطنية للتغيير و"6 أبريل" وغيرهم الاضطلاع به شريطة التنسيق في ما بينهم لتغطية معظم، إن لم يكن كل الدوائر.
جوهر الخطوة الثانية هو أيضا التنسيق بين أحزاب وحركات المعارضة ومنظمات المجتمع المدني بشأن الرقابة على الدوائر الانتخابية في 28 من الشهر الجاري لرصد سير الانتخاب ونسب مشاركة المواطنين وتسجيل التجاوزات والخروقات المتوقع حدوثها إن من الأجهزة الأمنية أو من المرشحين. المهم في هذا الصدد، وكما تفيد بعض التجارب المعاصرة للرقابة على الانتخابات في بيئات سلطوية مشابهة للبيئة المصرية، هو عدم الاقتصار على تسجيل التجاوزات الحكومية أو الاكتفاء بمتابعة تلاعب الأجهزة الأمنية بأصوات الناخبين في الدوائر. فمن الضروري للغاية رصد توظيف المال الانتخابي للتأثير على الناخبين وما قد يحدث من لجوء إلى العنف لإرهابهم إن من الأجهزة الأمنية أو من مناصري بعض المرشحين، وبغض النظر عن انتمائهم الحزبي. كذلك ينبغي متابعة كيفية التفاعل بين اللجنة العليا للانتخابات وأعضاء اللجان العامة (على مستوى المحافظات) والفرعية (الدوائر) وبين ممثلي الأجهزة الأمنية ورصد من سيكون له النفوذ الأكبر في إدارة الانتخاب. وإن كان إخفاق المعارضة في الالتئام حول موقف إستراتيجي موحد من الانتخابات مقاطعة أم مشاركة قد ألحق بدورها ضررا بالغا، فإن عدم تنسيق الرقابة في يوم الانتخاب والتضارب بين المراقبين والعجز عن تغطية شبه كاملة للدوائر ستذهب بفاعلية الجهود الرقابية ولن تتمكن لا المعارضة ولا المجتمع المدني من إصدار تقارير موضوعية وموثقة تقوى على منازعة الرواية الحكومية التي قطعا ما ستؤكد على نزاهة الانتخابات وسلامة كل إجراءاتها.
الخطوة الثالثة هي التواصل السريع مع الإعلام المحلي والعربي والدولي وكذلك مع الإعلام البديل لنشر التقارير الدورية وتقارير يوم الانتخاب وتكثيف الاهتمام العام بها. والحقيقة أن أمام نشطاء المعارضة والمجتمع المدني اليوم مساحات للفعل والحركة في هذا المجال تفوق بكثير ما كان متاحا في انتخابات 2005، وعليهم الإفادة من تجربة نشطاء المعارضة الإيرانية في أعقاب الانتخابات الرئاسية هناك والكيفية التي تواصلوا بها مع الداخل والخارج وفي ظروف أشد قمعا وعنفا من تلك الحاضرة في مصر.
أما الخطوة الرابعة فتتمثل في مطالبة اللجنة العليا للانتخابات، منذ أن يفتح باب الترشح وإلى ما بعد يوم الانتخاب، بوضع نصوص القانون المنشئ لها موضع التنفيذ وبالتعامل الحيادي مع المرشحين وبضبط تعامل هؤلاء مع المال الانتخابي والشعارات الدينية والتمييزية وبالعمل على إلزام ممثلي الأجهزة الأمنية بعدم التدخل في سير الانتخاب. فهذا هو ما تعد به اللجنة وعلينا، وبغض النظر عن محدودية إمكاناتها ومعضلات تشكيلها وكذلك عن نيات التدخل الأمني أو خطط التلاعب بالانتخابات إن الحكومية أو تلك المرتبطة بتوظيف المال الانتخابي أو العصبيات العائلية من بعض مرشحي الوطني والمعارضة، أن نذكّر اللجنة صباح مساء بمسؤولياتها ونتابع عملها بمزيج من الشك الإيجابي والنزوع نحو التدقيق في التفاصيل، علّ هذا التذكير يرفع بعض ضرر التجاوزات والخروقات.
الخطوة الخامسة هي ضرورة انتباه نشطاء المعارضة والمجتمع المدني إلى عدم تصنيف تجاوزات العملية الانتخابية إلى فئات متفاوتة في الأهمية وعدم الانسياق في اتجاه التركيز الأحادي على تلك التجاوزات المرتبطة بأجهزة الدولة والحزب الحاكم. تدخل الأجهزة الأمنية وإرهاب الناخبين يوم الانتخاب يشكلان تجاوزات خطيرة شأنها في ذلك شأن استخدام شعار"الإسلام هو الحل" أو شراء أصوات الناخبين أو استغلال نفوذ العائلات الكبيرة للتلاعب بنتائج الانتخاب، وليس من الموضوعي هنا أن نتجاهل الفئة الأخيرة بحجة أن تداعياتها ليست على الدرجة ذاتها لفئة التجاوزات الحكومية. فالحصيلة النهائية لكل هذه التجاوزات هي فوضى العملية الانتخابية وعزوف المواطنين عن المشاركة الطوعية فيها، وفي هذا خطر بالغ على الحياة السياسية وفرص تطورها.
ثم تأتي خطوة سادسة تستند إلى أهمية التفاعل مع الخطاب الرسمي وتأكيداته المتوالية على رغبة مؤسسة الحكم والحزب الوطني في انتخابات تنافسية ونزيهة، والمقصود بالتفاعل هنا هو مطالبة الحكم بترجمة نياته إلى قرارات وإجراءات محددة ثم كشف تقاعسه عن القيام بذلك وإثبات تهافت خطاب النزاهة الرسمي. اليوم، على سبيل المثال، تجادل قيادات الحزب الوطني كثيرا في شأن الرقابة الدولية على الانتخابات البرلمانية وتتذرع بحماية السيادة الوطنية ورفض التدخل الأجنبي في الشؤون المصرية وبأولوية الرقابة المحلية، وهذه في المجمل مقولات واهية يرد عليها بالتأكيد على أن الرقابة الدولية استقرت كممارسة مقبولة هدفها ضمان نزاهة الانتخابات ومساعدة، وليس استبدال، جهود الرقابة المحلية دون مساس بالسيادة الوطنية، وعلى أن الديموقراطيات والحكومات الراغبة في التحول نحو الديموقراطية لا ترفض الرقابة الدولية أو تخشاها. إلا أن الرفض الرسمي للرقابة الدولية والتذرع جزئيا بدور الرقابة المحلية، لا يفسر بل يتناقض بوضوح مع القيود المفروضة من قبل اللجنة العليا للانتخابات على طالبي تراخيص الرقابة من منظمات وشبكات وتحالفات المجتمع المدني المصري إلى الحد الذي دفع بأكثر من منظمة إلى التهديد بالانسحاب من جهود الرقابة. وذلك، أي القيود المفروضة على المراقبين المحليين، هو ما ينبغي أن يركز عليه الآن نشطاء المعارضة والمجتمع المدني ويوظفوه للتدليل على أننا أمام موقف حكومي لا يرحب بالرقابة، محلية كانت أو دولية.
( باحث مصري في مركز كارنيغي للسلام)
|