سوف تستمر تونس عنواناً، وتفاصيل، ونظريات، وتوقعات، الى أن تستقر على وضع يتأرجح بين التقليد والتجديد. وإذا كان من السهل تحديد خطوط الفصل بين الاتجاهين المتعاكسين فمن الصعب الفصل بين تونسيين اثنين طالما أن كلاً منهما يطرح، خطابة وكتابة، أرقى وأنبل ما يضمر لمستقبل تونس وأجيالها الحالية والآتية.
لكن تونس ليست بلاداً خارجة لتوها على الخريطة، ولا هي دولة ومؤسسات ناشئة. ولا شعبها مجموعات تكوّنت حديثاً بقرار أجنبي منحها الاستقلال.
هناك ستون سنة من عمر الدولة الوطنية التي قامت على أساس دستوري وقد اقتبست أفضل نصوصه من القوانين الخاصة بالأمة الفرنسية، وليست القوانين الخاصة بالمستعمرات في زمن الاحتلال وخطط فرنسة شعوب المغرب العربي.
ولعلّ تونس كانت مميزة في محيطها الإقليمي بدرجة جاذبيتها للمدنية الأوروبية، من دون التفريط بقيمها الدينية، وبالتقاليد الشعبية، وبعضها يعود أو ينتمي الى عادات قبلية موصوفة بالشهامة والشجاعة.
بين جميع أقطار المغرب العربي، وفي تونس خاصة، لا يشكل الدين عائقاً أمام أي طموح مشروع، فالإسلام في ذلك الجناح الواسع من شمال أفريقيا ليس ديناً وعقيدة وإيماناً وحسب، بل إنه هوية قومية وطنية كانت بمثابة الحصن المنيع الذي حمى عروبة أقطار المغرب في مواجهة مشاريع «الفرنسة» زمن عهد الاستعمار الأوروبي.
التونسي، أو المراكشي، أو الجزائري، أو الموريتاني، يقول للزائر العربي، سائحاً كان أو ضيفاً: «أنت عرْبي يعني أنت مسلم».
هذه علامة كبيرة على ثقافة سياسية إنسانية وحضارية تميز المواطن المغاربي أينما كان، في بلاده أو في الخارج. وهكذا لا فضل لحركة «النهضة الإسلامية» في تونس على أحد. بل تصحّ عليها النصيحة المصرية الشعبية المغناة «ما تروحش تبيع الميه بحارة السقايين».
ربما كانت هذه الخلاصة مفيدة لمتابعة التحول التونسي نحو الديموقراطية المدنية التي يتوقف بلوغ المرحلة الأولى منها على نتيجة الانتخابات الرئاسية المرتقبة في نهاية شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي.
حتى الآن يكفي تونس أنها كانت باكورة «الربيع العربي» الذي أزهر ياسمينه في أرجائها بأقل عدد ممكن من الشهداء.
يوم خرجت جماهيرها في 26 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي لتنتخب نوابها صوتت أكثريتها النسبية لحزب «نداء تونس» المعروف بالعلمانية فحلّ في المرتبة الأولى بعدد المقاعد النيابية التي أحرزها، وأصبح المرشح الأوفر حظاً للفوز برئاسة الجمهورية في الانتخابات المقررة في أواخر الشهر الحالي.
هكذا، حتى الآن، تبدو تونس وقد تقاربت بالديموقراطية مع محيطها الأوروبي غير البعيد. وما كان ذلك يسيراً عليها لو لم تتحرر أكثريتها الناخبة من سطوة ديكتاتوريتين: ديكتاتورية عسكرية – مخابراتية كان رأس هرمها زين العابدين بن علي وزمرته التجارية الفاسدة، وديكتاتورية متخفية بتنظيمات إرهابية بأسماء وشعائر مزيفة راحت تنشر الرعب في المدن والأرياف لتضع التوانسة في «بيت الطاعة»، وقد فشلت.
ما لم تكن تدركه قيادات تلك التنظيمات المستترة في «البلوكات» السكنية المغلقة، هو أنها تطلّ من الماضي على مستقبل تونس التي نشأت فيها أجيال من مختلف فئات الشعب، وأغلبيتها تعتمد على جهدها الذاتي وعلى ثقتها بإمكاناتها وبقدرتها على التغيير.
يلاحظ المراقبون من خارج تونس أن «الشغل» هو شعار يعني أكثر من حرفة يدوية أو زراعية. هو ثقافة مدنية اجتماعية عامة، بل يمكن اعتبار الشعب التونسي، بجميع فئاته، هو شعب شغل، وللمرأة التونسية فيه دور مساوٍ لدور الرجل في المجالات كافة.
وثمة مثل مغاربي يقول: لماذا تحاول أن تخلع باباً مفتوحاً؟
إذا كانت تونس قد نجت من شرّ الإرهاب فلأن المواطن التونسي غيور على مؤسساته الرسمية وعلى المصالح العامة الخاصة بالشعب، كما أنه شغوف بوطنه وبالأمن والاستقرار والفرح. هذا سبب داخلي، وهناك سبب آخر لإبعاد الشر الخارجي من تونس، فهي ليست بلاداً واقعة على خط تماس مع إسرائيل، وهي ليست جسراً بين الشرق والغرب. كما أنها ليست بلاداً منتجة للنفط مثل ليبيا، وهي ليست متعددة الطوائف والمذاهب والانتماءات الإقليمية أو الخارجية.
ثم إن تونس في كل الفصول تظل وجهة سفر عدد كبير من الأوروبيين لقضاء العطل والفرص والسياحة. وفي منتصف الثمانينات من القرن الماضي كانت العاصمة التونسية تشهد زحمة سياح وزائرين، وكان فندق «أفريكا» على جادة «الحبيب بورقيبة» لا يخلو من صحافيين أجانب وعرب يأتون للاستراحة أو لتقصي الأخبار، وكانت «كافيتريا» ذلك الفندق ملقاهم في الصباح حيث القهوة السوداء والشاي المعطّر وفطور «البريكا».
وذات صباح، كان صحافي عربي آتياً في مهمة يجلس في زاوية من كافيتريا الفندق حين جلسَتْ بالقرب منه في زاوية مجاورة سيدة تحمل آلة تسجيل وضعتها أمامها على الطاولة، ثم بعد لحظات وصل رجل وانضم إليها وبدآ حديثاً بالفرنسية. ومنذ الدقيقة الأولى لاحظ الصحافي العربي أن الحديث سياسي، وكانت السيدة صحافية فرنسية والمتحدث إليها تونسي.
وبنزعة الفضول غير المقصود راح الصحافي العربي يستمع الى الحديث الذي كان يجري سؤالاً وجواباً، وكان حافلاً بمعلومات مهمة لم يكن ممكناً للصحافي العربي الحصول عليها. وهو قد تظاهر بمطالعة كتاب كان يحمله مع ارتشاف القهوة وتدخين السجائر، وكانت ذاكرته مثل آلة تسجيل.
وبعد نحو ساعة كان الحديث قد انتهى، وغادرت الصحافية الفرنسية الكافيتريا وبقي الرجل وحيداً، فلم يتمالك الصحافي العربي إلا أن يلقي عليه التحية بالعربية، فردّ التحية مشفوعة بالمجاملة التونسية المحببة: يعيّشك..
ولم يجد الصحافي بداً من أن يعرّف عن نفسه، ويكشف مهنته وهويته، واسم الصحيفة التي يعمل فيها، ثم يعتذر. وبدا الرجل وكأنه صُعق، وكرّر الصحافي اعتذاره، مع سؤال الرجل: هل أستطيع أن أستعمل المعلومات التي سمعتها وأنسبها الى «مصدر تونسي مطلع»؟
كان الرجل ما يزال في حالة ذهول، ثم قال للصحافي: حسناً، فلنتعارف، ولكن ليس هنا، فأنت كنزيل صحافي عربي هنا مراقب في هذا الفندق. فليكن لنا لقاء في مكان آخر هذا المساء إذا شئت. ثم كتب عنوان مكان اللقاء والساعة المحددة مساء.
وتمّ اللقاء في مطعم إيطالي في حي «حلق الواد» القديم والمميز في العاصمة التونسية.. وهناك جرى التعارف. كان الرجل أستاذاً للعلوم السياسية في جامعة تونس، وكان ناشطاً سياسياً ينتمي إلى اليسار الديموقراطي، وقد قال للصحافي العربي خلال اللقاء وبعد العشاء: أرجو أن تنسى كل ما سمعت مما قلته للصحافية الفرنسية.
وإذ همّ الصحافي برجاء الأستاذ التونسي أن يسمح بنشر المعلومات على أنها من خارج تونس، قاطعه الأستاذ قائلاً: لكني سأطلعك على ما هو أهم.
ثم خفض صوته ليقول: الرئيس الحبيب بورقيبة بات عاجزاً جسدياً وعقلياً. لكنه يتحرك ويتكلم كثيراً.. إنما من دون تركيز.
وبعد منتصف الليل، وأثناء وقوف الصحافي والأستاذ التونسي على الرصيف بانتظار تاكسي في حي «حلق الواد»، مال الأستاذ على أذن الصحافي وقال له:
أتريد ما هو أهم من كل ما سمعت في الفندق وهنا؟
وأردف فوراً: تونس سوف تشهد قريباً انقلاباً. وسوف يكون الرئيس الآتي من السلك العسكري.
ثمّ صافح الأستاذ التونسي الصحافي العربي مودعاً، واجتاز الشارع الى الرصيف المقابل لينتظر سيارة تاكسي.
وبعد يومين نشرت الصحيفة التي يعمل فيها الصحافي العربي خبراً في الصفحة الأولى بعنوان كبير: تونس تنتظر رئيساً جديداً آتياً من السلك العسكري.
يومها احتجت السفارة التونسية في عاصمة الصحيفة العربية وكذّبت النبأ وهددت بإقامة دعوى.
ولكن بعد نحو ثلاثة أسابيع من نشر ذلك الخبر حدث الانقلاب في تونس، وجاء الجنرال المتقاعد زين العابدين بن علي من ديوان رئاسة مجلس الوزراء إلى قصر «قرطاج» ليعزل المجاهد الأكبر الرئيس الحبيب بورقيبة ويجلس مكانه.
وفي اليوم التالي خرجت جميع الصحف العربية والأجنبية بعنوان الانقلاب الذي نفّذه الجنرال بن علي.
حدث ذلك في السابع من تشرين الثاني (نوفمبر) 1987.
وقبل ذلك بشهر كان بورقيبة قد عيّن الجنرال بن علي رئيساً للوزراء.
* كاتب وصحافي لبناني |