تواجه الدول الغنيّة بموارد النفط والغاز مفارقة، هي أنّها رغم ثرواتها تميل إلى تسجيل نموّ أبطأ في المدى الطويل، وتفاوت أكبر في الدخل، وفساد أكثر، حتّى تبلغ حدّ الاستبداد في بعض الأحيان. لكنّ هذا ليس مصيرًا حتميًّا لجميع هذه البلدان طبعًا، إذ نجح الكثير منها بتحويل لعنة النفط نعمة. البلدان الّتي نجحت بذلك تميّزت بناحيتين: مستوىً مرتفع من الرأسمال البشري، ومؤسسات جيّدة تعزز ضوابط السلطة وموازينها.
ورغم أنّ لبنان غنيّ جدًّا لجهة الرأسمال البشري، تبقى مؤسساته ضعيفة في المجمل. وقد أعاد اتفاق الطائف توزيع السلطة بشكل أكثر تساويًا بين المؤسسات الرئيسيّة الثلاث. أي رئاسة الجمهوريّة ومجلس النوّاب ورئاسة الوزراء، التي تعود للطوائف الكبرى الثلاث. وقد قوّض النظام السياسي بطرق شتّى. فعلى سبيل المثال، توزّعت السلطة التنفيذيّة إلى حدّ ما عاد واضحًا من المسؤول فيها. أمّا النوّاب فيبدو أنّهم لا يهتمّون بالتشريع ومساءلة السلطة التنفيذيّة بقدر ما يهتمّون بتوفير الخدمات للناخبين.
وباتت الأحزاب السياسيّة متمرّسة في لعبة البقاء الانتخابيّة، من خلال تصميم القوانين الانتخابيّة لجهة إعادة توزيع الدوائر وفرز الأصوات بشكل يتيح إعادة انتخابهم بدون أن يُضطرّوا إلى تحقيق إنجازات لذلك. وهم يلجؤون إلى استراتيجيّات زبائنيّة بشراء الأصوات وتأمين الخدمات لقاء الولاء السياسي. إلى ذلك، فإنّ القضاء والهيئات الرقابيّة الّتي يقع على عاتقها مساءلة الحكومة، هي في أفضل الحالات مُهمّشة، ولكنّها في معظم الأحيان تتعرّض للإضعاف المتعمّد من جرّاء التدخلات السياسيّة أو النقص في عدد الموظفين.
باختصار، فإن النخبة السياسيّة تحكم البلاد إلى حدّ كبير بمنطق اقتسام الغنائم في ما بينها من خلال التعاقد من الباطن على المشاريع بشكل غير قانوني، وانتهاك شروط المناقصات، بالإضافة إلى صرف النظر عن تضارب المصالح عند التعاقد مع الشركات. وقد أدّى ذلك إلى ارتفاع في مستويات الفساد، والاختلاس، وسوء الإدارة، والهدر لمصلحة النخبة السياسيّة على حساب الشعب.
على هذه الخلفيّة، رأت هيئة إدارة قطاع النفط اللبنانيّة النور، وهي المرجعيّة المكلفة بإدارة القطاع النفطي. وبين تشرين الثاني 2012 وآب 2013، عملت الهيئة بشكل فعّال وبشفافيّة أكثر من معظم المؤسسات اللبنانيّة في مقاربتها للقطاع. فعقدت الاجتماعات الاستشاريّة وورش العمل، ونجحت في إرساء الأرضيّة لإطلاق جولة التراخيص للرقع البحريّة، وهي الآن تنتظر أن تُصدر الحكومة المراسيم الأخيرة لمتابعة العمليّة، فوجدت نفسها عالقةً في وحول السياسة اللبنانيّة بدون مخرج واضح من المأزق.
تكثر التحديّات التي تنتظر لبنان لتحويل النفط والغاز إلى تنمية مستدامة، وتتخطّى عمل الهيئة ومسؤوليتها لتشمل الوزارات، والهيئات الرقابيّة، والحكومة بشكل عام.
ولرفع هذا التحدي، يدفع العديد من الجهات المحليّة والدوليّة في اتجاه انضمام لبنان إلى مبادرة الشفافيّة للصناعات الاستخراجيّة (EITI)، الّتي تهدف إلى تعزيز الشفافيّة في القطاع. ومبادرة الشفافيّة هي ائتلاف طوعي يتألف من الحكومة، وشركات النفط، ومنظمات المجتمع المدني، يكمن الهدف منه في تعزيز الشفافية والمساءلة في مجال إدارة الإيرادات. وعلى الدول الّتي تُعرب عن اهتمامها بمبادرة الشفافيّة أن تتعهّد العمل مع القطاع الخاص والمجتمع المدني، وأن تعيّن شخصًا مسؤولاً عن قيادة العمليّة وتنفيذ العمل المُتفق عليه بين أصحاب المصلحة. ويتعيّن على مجموعة أصحاب المصلحة المتعددين أن تنشر ضمن مهلة 18 شهرًا تقريرًا يُفصح عن الإيرادات – الضرائب، والأتاوات، والمصادر الأخرى الّتي تتلقّاها الحكومة. ويُتوقّع عندما تُصبح هذه البيانات شفافّة، أن يؤدّي ذلك إلى المساءلة.
إلاّ أنّه لا يُرجّح لمبادرة الشفافيّة، ومهما صفت نياتها، أن تحلّ المشكلات اللبنانيّة. فنتاج مجموعة أصحاب المصلحة، أي تقرير التدقيق المالي، يقارن بين ما تدفعه شركات النفط والغاز، وما تجنيه الحكومة. وبالمنطق المحاسبي، فهو في الواقع يظهر ما إذا كانت الأرقام متوافقة – إلاّ أنّه لا يُبيّن لنا ما إذا كانت الأرقام صحيحة. وبعبارة أخرى، ما من طريقة لنعرف من هذه العمليّة ما إذا كان لبنان يتلقّى الحصّة الفُضلى للحكومة، وما إذا كانت الإتاوات المفروضة مرتفعة كفاية. ويكتسب ذلك أهميّة خاصّةً في لبنان لأنّ عمليّة المناقصات في القطاعات الأخرى تتسّم بشكل عام بالضبابيّة في أحسن الأحوال.
إلى ذلك، تنشأ مشاكل أخرى متّصلة بتقرير التدقيق الّذي تنشره مجموعة المبادرة: كواقع أنّ الشركات تعمل على أساس الاستحقاق – اي أنّها تسجّل المبيعات والمشتريات عند عقد الإلتزامات، بغض النظر عن وقت تحويل الدفعات النقديّة – في حين أنّ الحكومات تعمل عادةً على أساس نقدي، ما يُعرّض تقارير التدقيق للتلاعب. وتكمن مشكلة أخرى في أنّ التقارير لا تُظهر كم تدفع كلّ من الشركات إلى الحكومة.
المسألة الثانية هي أنّ عمل مبادرة الشفافيّة يرتكز على أرضيّة غير ثابتة، إذ يعتبر أنّ الشفافية "لا يمكن إلاّ أن تؤدّي إلى المساءلة في حال وجود فهم حول ما تعنيه الأرقام ونقاش عام حول كيفيّة إدارة ثروة الموارد في البلد". ورغم أنّ الإفصاح عن المعلومات والنقاش العام ضروريّان، إلاّ أنّهما لا يكفيان أبدًا لمساءلة الحكومة. ولا شكّ في أنّ تقرير التدقيق الصادر عن مبادرة الشفافية، إذا صيغ باقتضابٍ ووضوح، من شأنه أن يُطلع المواطنين لا بل أن يُثقّفهم، لكن لا يُرجّح أن يؤدّي إلى المساءلة. فلبنان مشهور بشكل خاص بذلك، لأنّ الهيئات الرقابيّة تبلّغ عن الكثير من الانتهاكات في تقاريرها السنويّة أو في الإعلام، لكنّ قلّما تتمّ معالجتها. وباختصار، فإنّ النظام القائم نادرًا ما يسائل أحدًا.
ولا شكّ في أنّ تمثيل منظّمات المجتمع المدني في مجموعة أصحاب المصلحة أمرٌ جيّد في البداية، لأنّه يدلّ على توجّهات لتأسيس عمليّة تشاركيّة. لكن، من المهمّ التذكير أنّ منظمات المجتمع المدني هي بشكل عام الحلقة الأضعف في المجموعة التي تضمّ أيضًا الحكومة والشركات النفطيّة. فمن المبالغ فيه أن نفترض أنّها ستتمكّن من الوقوف بوجه هذين الفريقين، أو حتّى أنّها ستكون مستقلّة. فليس لمنظّمات المجتمع المدني آليّة إنفاذ، كما قد لا تكون ممثلة للجمهور. ومن الشواغل الأخرى أنّه قد يتمّ استقطاب منظمات المجتمع المدني في مجموعة أصحاب المصلحة في نهاية المطاف.
غير أنّ القصور الأكبر في مبادرة الشفافيّة هو أنّها تركّز على عنصر واحد في سلسلة القيمة: أي الشفافية في الإيرادات. وبعبارة أخرى، فهي تتجاهل التحديات الّتي تواجه البلاد في مجال أنشطة المنبع، سيّما لجهة منح العقود، كما في مجال أنشطة المصبّ، لناحية توزيع الإيرادات. وفي الواقع، فإنّ مشكلة لعنة النفط لا تنبع فقط من الفساد السافر بحدّ ذاته، ولا تكمن فقط في اختفاء الأموال وظهورها في جيوب المسؤولين، بقدر ما تُعزى إلى إنفاق الأموال بشكل غير كفيّ. وأظهرت دراسات شاملة لعدّة بلدان أنّ مشكلة لعنة الموارد نوعان: فهي تُخرج الناس من القطاعات الإنتاجيّة وتُدخلهم مجال التماس الريوع، كما تتيح للسياسيّين استخدام ريوع الموارد للحصول على الدعم من خلال التوزيع غير الكفيّ للوظائف في القطاع العام. لبنان هو عرضة بشكل خاص لهذه العلل، بما أنّ نظامه الديموقراطيّ مشخصن إلى حدّ كبير، وتنتشر فيه شبكات المحسوبيّات والزبائنيّة على نطاق واسع.
ورغم أنّ مبادرة الشفافية هي خطوة أولى في اتّجاه المساءلة، إلاّ أنّها تعجز عن تحقيق ما نصبو إليه. في الواقع، يتمثل أحد الشواغل الرئيسيّة في أنّه وعند تسجّل لبنان في مبادرة الشفافيّة، سيُعطي انطباعًا بأنّنا نعمل على الشفافيّة أو بأنّ الحكومة تقوم بواجباتها باحترامها شروط المبادرات العالميّة. في هذه الحالة، تصبح مبادرة الشفافية الغاية وليس الوسيلة. والمقلق في ذلك هو أنّ الاستثمار في مبادرة الشفافية قد يحيد بالموارد عن المسائل الحقيقيّة الّتي تتخطّى مواءمة الضرائب والاتاوات الّتي تدفعها الشركات للحكومة.
علينا أن نذهب أبعد من مبادرة الشفافيّة لاعتماد مقاربة أكثر شمولاً تعالج مختلف مراحل سلسلة القيمة للنفط والغاز، بدءًا من المرحلة التحضيريّة الّتي يتمّ خلالها منح العقود، وصولاً إلى كيفيّة صرف الموارد وآثارها على البلد. وفي كلّ من المراحل، نحتاج إلى التفكير بشكل خلاّق حول كيفيّة الدفع في اتجاه الشفافيّة والمساءلة على الرغم من القيود الحاليّة. ولا أؤمن بوجود حالة نموذجيّة نعتمدها، وعلينا بالتالي التفكير بطرق لاختراق ضبابيّة النظام والدفع في اتجاه تزويده بآليّة مساءلة ليتّسم بالموثوقيّة. وعلينا إيجاد طرق للتحرّر من مؤسساتنا الضعيفة، وتأسيس أخرى جديدة. ويمكن لمعلّمات هذه البنية التحتيّة المؤسسيّة أن تكون كالتالي:
أوّلاً، يجب أن تتمتّع هيئة إدارة قطاع النفط بمزيد من الاستقلاليّة تجاه وزارة الطاقة والمياه، وأن تتحكّم بموازنتها الخاصّة. أمّا قراراتها، فيجب أن تُعلن قبل رفعها إلى الوزارة - شرط ألاّ يمسّ ذلك بالتنافسيّة في العمليّة - حتّى يتمكن الشعب من رصد تغيّر السياسات، ومن يغيّرها، ولماذا. كذلك، يتعيّن أن يترافق أي قرار أو سياسة مع شرح وتبريرات. إلى ذلك، يجب أن تُلزَم شركات النفط بالإفصاح عن كلّ المواد ذات الصلة لهيئة عامّة، تحت طائلة خسارة عقودها.
ويتعيّن على الحكومة، مع وزارة الطاقة والمياه، أن تُطوّر سياسة الطاقة، حّتى نكوّن فكرة عن وجهة القطاع، وكيفيّة مساهمة اكتشافات النفط والغاز بذلك، وكيف تنوي الحكومة التعامل مع آثارها على الاقتصاد.
ويجب أن يضطلع مجلس النوّاب، ولا سيّما لجنة الطاقة البرلمانيّة، بدور أكثر فاعليّة. لذلك، يتعيّن على هذه الأخيرة تطوير قدراتها الفنيّة لمراجعة آفاق سياسة الحكومة والمساهمة فيها ومناقشتها. ولا يجدر أن تقتصر استشاراتها على هيئة إدارة قطاع البترول والحكومة، بل لا بدّ لها أيضًا أن تعقد جلسات استماع عامّة دوريّة حول سياسة النفط والغاز، إلى جانب وزارة الطاقة، والهيئة، وديوان المحاسبة، وغيرها من الهيئات الرقابيّة للإجابة عن الأسئلة. ويجب على هذه الجلسات أن تضمّ خبراء ومنظّمات مجتمع مدني. فهدف اللجنة يكمن أولاً في مساءلة الحكومة، وإنّما أيضًا في التوصّل إلى توافق وطني حول سياسة النفط والغاز.
وحتّى تكون منظّمات المجتمع المدني أكثر اطلاعًا، يتعيّن عليها بناء قدراتها من خلال التعرّف إلى القطاع. وعليها إجراء نقاشاتها الخاصّة حول الطريقة الفُضلى لرصد قطاع النفط والغاز. وحتّى تكون أكثر تمثيلاً، لا بدّ لها أن تحشد مواردها لتنظيم تحالفٍ أو شبكة. وبهذه الطريقة، يمكنها أن تشارك بشكل أكثر فاعليّة في جلسات الاستماع البرلمانيّة العامّة.
أما على صعيد السياسات، فعلى الحكومة والوزارات المعنيّة وضع السياسات لتفادي تخلّي الناس عن قطاعاتهم المنتجة سعيًا وراء الريوع، كما هو شائع في البلدان الغنيّة بالموارد. إلى ذلك، نحتاج إلى ثني السياسيّين عن استخدام الموارد النفطيّة لإنشاء الوظائف العامّة لقاء الدعم السياسي.
وفي حين أنّ اعتماد مبادرة الشفافية يمكن أن يشكّل بداية جيّدة على طريق الاستخدام الملائم للإيرادات الناتجة عن النفط والغاز، فهي وحدها لا تكفي على الإطلاق. وإذا كان للبنان أن يحوّل نفطه من لعنةٍ إلى نعمة، لا بدّ له أن يؤمّن بنية مؤسسيّة أفضل من تلك القائمة حاليًّا. المركز اللبناني للدراسات (LCPS)
|