هناك قاعدة في الحياة السياسيّة اللبنانيّة تكاد لا تخطئ: كلّ واحدة من الطوائف تتعرّض لما يشبه النكبة حين تذهب بعيداً في اللعبة الخارجيّة والتورّط فيها، متجاوزة حدودها وحساباتها وحساسيّاتها الداخليّة. ففي حرب السنتين (1975 – 1976) انخرط كمال جنبلاط، على رأس "الحركة الوطنيّة"، في تحالف يكاد يكون اندماجاً مع المقاومة الفلسطينيّة. وقد تسبّب التحالف هذا، في عدم مراعاته الخصوصيّات اللبنانيّة واستقلاليّة الحيّز السياسيّ اللبنانيّ عمّا عداه، في صراعات لم يعد جنبلاط نفسه قادراً على السيطرة عليها. ولم يطل الأمر، فكان اغتياله في آذار 1977 الذي كان له على طائفته وقع النكبة (التي لم يبرأ منها الدروز جزئيّاً إلاّ بنكبة المسيحيّين في الثمانينات).
أمّا الموارنة الذين أحسّوا بالحصار، في ظلّ الوجود المسلّح الفلسطينيّ ثمّ السوريّ، فاندفعوا إلى التحالف مع إسرائيل، ودفعوا غالياً بالتالي ثمن هذا التحالف الذي لا يحتمله لبنان ولا العالم العربيّ، في شرق صيدا وفي الجبل الذي هو ركيزة الدور التاريخيّ للمسيحيّين اجتماعيّاً وسياسيّاً. وفي هذه الغضون لم ينجح وصول بشير الجميّل إلى رئاسة الجمهوريّة في إعفائهم من هذه الكأس المرّة، بل كان أن قضى هو نفسه في ذاك الانفجار الشهير بعد أيّام على انتخابه. صحيح أنّ السنّة شكّلوا، أواخر الخمسينات، استثناء على هذه القاعدة. فوقوفهم مع جمال عبد الناصر ضدّ عهد كميل شمعون عاد عليهم بمنافع سياسيّة عبّر عنها العهد الشهابيّ. لكنّ ذاك الاستثناء كان استثنائيّاً جدّاً. فهم بوقوفهم اللاحق في صفّ المقاومة الفلسطينيّة، حصدوا شيئاً من هزيمتها في 1982 التي مهّدت لصعود الدور الشيعيّ اللاحق. هكذا باتت بيروت نفسها، في الحسابات الطائفيّة المعهودة، مدينة متنازَعاً عليها. وما إن كاد رفيق الحريري يعدّل توازن القوى المحلّيّ قليلاً حتّى اغتيل. وبدورهم تفادى الشيعة، الذين قادهم حزب الله إلى حرب مفتوحة مع إسرائيل والتحاق كامل بإيران، هذا المصير. ذاك أنّ شعبيّة العداء العربيّ لإسرائيل جنّبتهم النكبة التي عانتها باقي الطوائف. وفي ظلّ ميل إلى إنكار الخسائر البشريّة والاقتصاديّة وما ترتّبه من معانٍ ودلالات، استطاع الأمين العامّ حسن نصر الله أن يقدّم حرب تمّوز 2006 كانتصار إلهيّ. لكنْ يُشكّ كثيراً في أن يفضي التورّط في الحرب السوريّة، إلى جانب نظام مكروه عربيّاً، إلى نتائج مماثلة، كما يُشكّ في قدرة حزب الله، هذه المرّة، على قلب الهزائم انتصاراتٍ.
إنّها القاعدة اللبنانيّة التي قد لا يكون لأحد مفرّ منها. والطوائف، تبعاً للقاعدة هذه، إنّما تُنكب واحدة بعد الأخرى، من دون أن تتعلّم واحدتها من الأخرى!
|