الأحد ٢٤ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: تشرين الثاني ١٠, ٢٠١٤
المصدر: جريدة الحياة
الغضب الساطع آتٍ! - عمر قدور
ثمة بحار من الدماء سُفكت في المنطقة في السنوات الثلاث الأخيرة، إذا شئنا استخدام البلاغة التقليدية بقسوتها. الأسوأ من هذا عدم وجود أفق لتوقف المجازر إذا لم تتدخل القوى العظمى والإقليمية لوقفها. الأسوأ على الإطلاق القناعة شبه المطلقة بأن ترك المنطقة لأبنائها سيؤدي إلى مزيد من القتل والتشريد والدمار. بين ما سبق ثمة ما هو سيء جداً أيضاً، فالقوى الدولية والإقليمية المناط بها وقف المجازر بعضها ضالع فيها مباشرة، وبعضها الآخر متهم بذلك على نحو غير مباشر بسبب سياساته.

على العموم، يظهر أن الحل مُرتجى من مشاركين أساسيين في التوصل إلى الوضع الراهن، بينما لا يبدو أن نقلة ضرورية أنجزها هؤلاء ليصبحوا عماد الحل، ولا تبدو الشعوب المعنية قد أنجزت النقلة الكافية للاعتماد على النفس بدل الاتكال عليهم.

ما هو منطقي ويثير اليأس في آن، عدم وجود إستراتيجية بعيدة المدى لاجتثاث أسباب التطرف والإرهاب، إذ من المفهوم أن أية إستراتيجية حقيقية لا بد لها من ملامسة شاملة لأسباب التطرف والعنف الحالي، ما يتطلب من أصحابها استعداداً لتغيير في السياسات الخارجية على صعيد القوى الدولية أو بعض القوى الإقليمية، أو استعداداً لتغيير في بنية الأنظمة ذاتها على الصعيد المحلي. ما يثير اليأس هو الإجماع على أن مسببات التطرف والعنف تكاد أن تكون معروفة ومُتفقاً عليها، لكن العمل لمعالجتها شأن آخر، كأننا أمام مريض علّته مشخّصة بدقة والعلاج معروف، لكن ثمنه باهظ بحيث يفضّل كثيرون تركه لمصيره.

أول ما يكاد أن يقرّ به الجميع وجود حالة عارمة من الغضب. فأهل المنطقة غاضبون من أنظمتهم، وغاضبون من السياسات الدولية إزاء قضاياهم، غاضبون من تخلفهم ربما بمقدار غضبهم من تقدم الآخرين ونقمتهم عليهم، غاضبون من انعدام الحرية الدينية وثمة غاضبون من فائض حضور الدين في الفضاء العام. نزولاً، حتى نرى الأولاد غاضبين من أهاليهم، وحتى العشاق الغاضبين من هجر حبيباتهم أو عدم قدرتهم على تجسيد عشقهم؛ قد يتقدم على ذلك أو يتأخر الغضب من انعدام الفرص أو عدم تكافئها. ولا ننسى أيضاً الأنظمة الناقمة على شعوبها، أو الناقمة على تهميشها إقليمياً ودولياً.

بناء على ذلك، قد تكون الحرب الشاملة هي الحل، وقد يكون ما نشهده من العنف المعمم لا يطابق حتى الآن ذلك الحجم الهائل من الغضب. وإذا ركزنا، كما يفعل العديد من الباحثين على العامل الثقافي، سنحظى بلا شك بمبرر مستدام للعنف، بحيث يكاد الحل يكون متوقفاً إما على فناء هذه الكتلة الغاضبة أو على تغير جوهري ينبغي أن يصيب معتقداتها ومفاهيمها الدينية خاصة.

القول بحتمية العنف ليس جديداً على أية حال، فهناك بين المفكرين من يردّها إلى طبيعة بشرية، أو حتى إلى نزوع غريزي كما فعل فرويد في كتابات متأخرة له، أو يردها إلى عوامل ثقافية محضة يركز عليها السوسيولوجيون عموماً، ويلتحق بهم بعض الأنصار ممن يتلقفون العوامل الثقافية بغية رفعها إلى مرتبة الجوهر الثابت. إلا أن النزوع التدميري، وهذا أمر تسهل ملاحظته، لم يكن متوافراً لدى الجماعات أو الأفراد دائماً، ولا يكفي الادعاء بأنه نزوع كامن يحتاج فتيلاً وناراً فحسب. المشكلة هنا دائماً كانت في الالتباس، أو في الخلط المتعمد، بين الغضب والعنف. فالغضب شعور مقيم إلى حد كبير، وله عوامل متجددة منها ما هو حياتي مباشر ومنها ما هو ثقافي، أما العنف فسلوك عدواني يفترض في غالبية حالاته وجود شريك هو «العدو»، وقلما يكون العنف أعمى، بمعنى أن ينفجر كطاقة مكبوتة تدمر ما حولها بلا أي تعيين.

في استخدامنا للغة العربية يبرز أيضاً هذا الخلط، إذ كثيراً ما يجري استخدام الغضب كحالة سلوكية لا كحالة شعورية، أو كحالة يلتبس بها الشعور بالسلوك فيبرر الأولُ الثانيَ بذريعة الخروج عن الطور الهادئ المعتاد. ثم إن الخلط لا يذهب فقط إلى تبرير العنف بحجة الغضب، وإنما يحول تالياً بين تفحص المساحة بين الشعور والسلوك أو يلغيها، في حين أن هذه المساحة تحديداً هي المساحة الشائكة التي قد تمتص مشاعر الغضب، أو تردع صاحبها عن ممارستها عنفاً أو عدواناً. بالتعريف، المساحة المقصودة هي مساحة مجتمعية في الدرجة الأولى عندما كانت المجتمعات تسير بقوة الأعراف وحتى الأديان، إلا أنها أصبحت مساحة حقوقية عندما تولت الدول مسألة التنظيم المجتمعي.

وقد تكون واجبة الإشارة هنا إلى دول حديثة أخذت على عاتقها ما يسمى «الهندسة الاجتماعية» بدل «الانتظام الاجتماعي» ضمن علاقات حقوقية، إذ راكمت أنظمة الهندسة الاجتماعية دائماً حجماً من الاستعداد للعنف لدى مواطنيها يفوق نظيراتها الديموقراطية، بحيث انسحب ذلك على مرحلة التحول الديموقراطي في بعض البلدان.

من المرجح، وفق ما تقوله التجارب الديموقراطية، أننا أمام معضلة ثلاثية الأبعاد، فهناك حجم هائل من الغضب نتيجة انعدام فرص التغيير السلمي ضمن أنظمة الاستبداد، الأمر الذي يدفع تالياً إلى توسل العنف كوسيلة وحيدة للتغيير، والذي يدفع ثالثاً، أو بالأحرى أولاً، مجموع قوى الماضي (وفي مقدمها التطرف الديني) إلى إعاقة التغيير باستخدام العنف أيضاً. وسيكون من مصلحة الفئات الأقوى استثمار الغضب بوصفه عنفاً لأنها تملك القدرة على استثماره، بينما تجد الفئات الأضعف نفسها مكرهة على خيار العنف لانعدام السبل الأخرى أمامها؛ أية مساواة بين الأطراف الثلاثة ستكون بمثابة غبن مضافٍ للأضعف، وستكون بمثابة مساواة حقوقية في وقت يتسبب غياب هذه المساواة في هذا الكم الهائل من العنف.

لماذا هذا الحجم الهائل من العنف؟ سيكون من الإجابات المنصفة القول: لأننا غاضبون حتى من شركائنا القريبين، ولأنه لم يتح لنا لامتصاصه الدخول مع محيطنا في علاقة صراع ديموقراطية وقانونية. وقد يكون منصفاً أيضاً القول: لأن الحلم كان كبيراً وجاداً حقاً، وليست هذه المرة الأولى التي تستشرس فيها قوى الماضي وهي تتلمس أفولها. ما لا يبشر بخير قريب أن الماضي، عندما ينازع، يستهلك وقتاً طويلاً جداً.



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة