في مقال نشر في «تيّارات» صبيحة الانتخابات التشريعية التونسية، وضعنا عنواناً استباقيّاً: التجربة الانتقالية التونسية انتصار للحداثة، وقلنا، قبل أن تتبيّن نتائج الانتخابات، إنّ الدرس الأساسي المستخلص من هذه التجربة يختصر في كون نظام الحكم الأمثل هو الذي يقوم على إعلاء مبدأ المواطَنة واعتماد آليات الحكم الحديثة، وأنّ الصراعات القبليّة والطائفية وشعارات الوحدة العربية والخلافة السادسة وولاية الفقيه ليست إلاّ أوهاماً لا مكان لها في عالم اليوم. وماعدا هذا الدرس العام، تظلّ التجربة التونسية شديدة الارتباط بخصوصيات الوضع التونسي، ويمكن اختصاره في الآتي:
أوّلاً، تونس بلد متجانس نسبياً دينياً وعرقياً ومذهبياً ولغوياً، لا يملك ثروات نفطيّة معتبرة، ولا يقع على الحدود مع إسرائيل، عمّم التعليم الحديث على البنات والبنين منذ أكثر من خمسين سنة، وتعوّد إسلاميوه وديمقراطيّوه على تقاطع بعض المواقف منذ أكثر من ثلاثين سنة، على رغم المنافسة الحادّة بين الطرفين.
ثانياً، إذا تأملنا المشهد السياسي في جذوره العميقة، ألفينا أنّ الثورة لم تغيّر جذريّاً توزيع التيّارات السياسية، وإن غيّرت خطاباتها. هذه التيارات ظهرت نتيجة الأزمة الهيكلية لدولة الاستقلال في السبعينات، وانقسمت إلى تيّار إصلاحي من داخل المنظومة، وتيّار رافض للمنظومة باسم الثورة الاشتراكية الكونيّة، وتيّار رافض للمنظومة باسم الثورة الإسلامية الكونية. حركة «نداء تونس» تواصل اليوم التيّار الأوّل، و»الجبهة الشعبية» التيار الثاني، وحركة «النهضة» التيّار الثالث. فشلت الثورة في تجاوز هذا التوزيع وإيجاد تيارات جديدة ذات عمق جماهيري، لكنّها نجحت في إجبار كلّ تيّار على أن يسعى إلى التوافق مع الديموقراطية وشعارات الثورة.
ثالثاً، يبدو العهد السابق كأنّه قوس عابرة في التاريخ السياسي والأيديولوجي لتونس، لقيامه على تغييب العمل السياسي أصلاً، والاعتماد فقط على وزراء التنفيذ، والاستثناءات القليلة من رموز هذا العهد التي جازفت بالتقدّم للإنتخابات منيت بهزيمة منكرة، بما ينسف الادّعاء بأنّ الناخب التونسي صوّت لعودة النظام القديم.
رابعاً، انتصار «نداء تونس» يثبت أنّ غالبية التونسيّين لا تخلط بين العهد السابق والتوجّه الذي يمكن أن نسمّيه «البورقيبية»، وأنّ الأطراف التي قرأت الثورة كنسف لدولة الاستقلال كلّها لا كثورة على الاستبداد تخصيصاً، قامت بمراهنة خاسرة. لذلك اضطرّ رئيس حركة «النهضة» إلى أن يذهب قبل الانتخابات بأيّام إلى ضريح بورقيبة لقراءة الفاتحة، بعدما كان يرفض مجرّد الترحّم عليه، لكنّ استفاقته جاءت متأخّرة.
خامساً، تصرّف الناخب التونسي كان حداثيّاً، لأنّه حاسب «الترويكا» الحاكمة منذ 2011 على إنجازاتها لا على هويتها. ومن أراد أن يفهم لماذا انهزمت «الترويكا» عليه أن يراجع وعودها الانتخابية سنة 2011، بخاصة برنامج «النهضة» الذي تضمّن آنذاك «365 وعداً» (بمعدّل إنجاز كلّ يوم، بما أنّ الفترة كانت محدّدة آنذاك بسنة واحدة!). وليست المشكلة في ضعف المنجز، فهذا أمر مفهوم في ظلّ الاضطراب الذي يميّز دائما الفترات الثورية، لكنْ في السقف العالي جدّاً للوعود التي لم تكن قابلة للتنفيذ أصلاً. لذلك عاقبت الشـــرائح الشعبية الأطراف التي غالطتها سنة 2011 لأنها صّدقت آنذاك وعودها، ولم تنطل عليها محاولات إخفاء الفشل بإغراق البلاد في مجادلات في الدين والهوية وقضايا محسومة في ذهن التونســـيين منذ قرون.
وبما أنّ التداول على السلطة يمثّل لبّ الديموقراطية، فنتائج الانتخابات ينبغي أن تُقرَأْ أســاساً على أنّها تحقيق للتداول على السلطة، فلا توجد في الديموقراطية هزيمة نهائية وانتصار نهائي.
سادساً، هل يمكن توقّع إعادة توزيع للتيارات السياسية؟ لئن كان لبّ الديموقراطية التداول السلمي على السلطة، فتحديد الأطراف التي ستتداول عليها يخضع لاعتبارات معقّدة لا يمكن التحكّم بها. ففي بداية الثورة، كثر الحديث عن الدور المحوري لهيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريّات التي تأسست سنة 2005، لكن هذا الائتلاف مات أيضاً مع الثورة، فلم ينجح في المحافظة على وحدته لقيادة الفترة الانتقالية، وكان يمكن أن ينقسم تيارين، إسلامي وديموقراطي، ويؤطّر العمل السياسي العام، لكنّ الاختلال في توازن القوى بين «النهضة» وبقية مكوناته حال دون ذلك، ما جعل المشهد بعد الانتخابات يسير في اتجاه وجود حزبٍ طاغٍ هو «النهضة» وأحزاب صغيرة تدور في فلكها، والحكم على ما سوى ذلك بأنهم جماعة «الصفر فاصل» (عبارة تهكمية أطلقها أنصار النهضة على رفاقهم قديماً في هيئة 18 أكتوبر من اليسار) أو «أزلام النظام القديم» (توسّع أنصار «النهضة» في استعمال هذه العبارة فصارت تطلق على كلّ من يعارض مواقفهم). وهذا ما فتح الطريق لطرف آخر ليعدّل المشهد السياسي ويمنع عودة هيمنة الحزب الواحد، فنشأ «نداء تونس» سنة 2012 يجمع مناضليه من مصادر مختلفة، منها الحزب الحاكم سابقاً.
سابعاً، «نداء تونس» ليس استمراراً للحزب الحاكم سابقاً، هذه حقيقة، وهو يضمّ أيضاً كثيرين كانوا في المنظومة السابقة، وهذه حقيقة أيضاً. والسؤال المطروح: هل نراهن على الديموقراطية أم لا؟ هل نمنع عودة الممارسات القديمة بترسيخ الديموقراطية أم بالميليشيات «الثورية» و»السلفية»؟ المراهنة على الديموقراطية تعني تثمين تداول السلطة، والثقة بالمؤسسات السياسية الجديدة لمنع التفرد بالحكم، والاعتماد على المجتمع المدني الذي تصدّى سابقاً لمحاولات نسف الطابع المدني للدولة وأخونة المجتمع ليتصدّى مستقبلاً لأية محاولة لإحياء المنظومة القديمة، برموزها أو بممارساتها.
ثامناً، حزب «النهضة» يقول إنه لم يعد مرتبطاً بحركة الإخوان المسلمين، لكنّه لم يعلن ذلك في قرار رسمي ، وما زال رئيسه نائباً لرئيس ما يُعرَف بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي يتبنّى رسمياً مواقف من الدولة والمرأة تقع على النقيض تماماً من الدستور التونسي. حزب «النهضة» يؤكّد تثمينه التجربة الانتخابية التونسية، وليس مستبعداً أن نرى بعد الانتخابات الرئاسية تحالفاً بينه وبين «نداء تونس»، ولو بطريقة غير مباشرة. لكن مناضليه كثيراً ما يتحدثون في الصفحات الاجتماعية عن غزوة «أحد» و»صلح الحديبية»، ويواصلون الخلط بين المعارك الانتخابية والغزوات الدينية، والخصوم السياسيين والأعداء الكفّار. باختصار، أمام «النهضة» أيضاً طريق طويلة لتحقيق التوافق مع الديموقراطية والتوحيد بين القول والممارسة، وستبرز النتيجة على محكّ التجربة، أو تفشل بالتجربة.
|