بدأ «الربيع العربي» من تونس، لكن ميادين مصر هي التي حرّضت عليه، وجعلته بمثابة واقع، بالنسبة للعديد من مجتمعات البلدان العربية. بيد أن ما يثير الاهتمام، أيضاً، في مقاربة هاتين التجربتين التحولات المتشابهة والمآلات المتفارقة بينهما. ففي هذين البلدين صعد تيار الإسلام السياسي إلى سدة السلطة، بواسطة صناديق الاقتراع، لكن التجربة الديموقراطية في مصر لم تكتمل، إذ جرى عزل «الإخوان» عن الحكم بواسطة الجيش، مع الأخذ في الاعتبار التحركات الشعبية التي رافقت ذلك أو غطت عليه، في حين أن هذه التجربة اكتملت وصولاً للانتخابات، التي أفضت إلى تراجع مكانة حركة النهضة من المركز الأول الى المركز الثاني. ثمة ثلاثة أطراف لعبت أدواراً أساسية في تطور التجربة وافتراق مساراتها، في كل من البلدين المعنيين، التيارات الإسلامية، والتيارات العلمانية، والجيش. فمنذ البداية بدا واضحاً أن إدراكات كل طرف من هذه الأطراف لذاته، وللآخرين، في كل بلد يختلف عنه في البلد الآخر، تبعاً للثقافة والتجربة التاريخية وطبيعة المجتمع.
وفي الواقع فقد توافّرت في تونس مجموعة من العوامل التي مكّنت من الاستمرار بالتجربة، بطريقة طبيعية، وصولاً إلى تحقيق انتقال السلطة، بحسب التقاليد الديموقراطية. هكذا، عندما استشعرت حركة النهضة بأن الظروف في البلد لا تساعد على الاستمرار بالتفرد بالحكم، حتى مع وجود غالبية في المجلس التأسيسي، تنازلت عن السلطة (2013)، وأبدت مرونة عالية في صوغ الدستور، في حين أن تيار «الإخوان»، إبان وجوده في الحكم في مصر، فعل غير ذلك. فهو بعد ان وعد بعدم تقديم مرشح لرئاسة الجمهورية، وعدم السيطرة على الغالبية في مجلس النواب، فعل عكس ذلك في هذين الأمرين، بل ذهب بعيداً في التخلي عن حلفائه، وفي صوغ دستور مختلف عليه، ما فاقم المشكلة بينه وبين التيارات الأخرى، العلمانية والليبرالية واليسارية والقومية.
وللإنصاف، ففي حين توافّرت لحركة النهضة بيئة من القوى العلمانية واليسارية والليبرالية والقومية، التي لا تنحو نحو الاقصاء والتهميش، فإن حركة الإخوان المسلمين، في مصر، لم تتوافر لها مثل هذه البيئة، إذ أن معظم التيارات تلك أبدت ميلاً لإنهاء حكم الإخوان بأي شكل، ولو بواسطة الجيش. وفي الحالين، أيضاً، كان سلوك الجيش مختلفاً، ففي حين ظل في الحالة التونسية على الحياد، وخارج السياسة، فإنه في مصر فعل غير ذلك، إلى حد انه قدم مرشحاً للرئاسة.
أيضاً، يلفت الانتباه في المقاربة بين تجربتي مصر وتونس أننا إزاء مجتمعات متجانسة، بالقياس لمجتمعات المشرق العربي الفسيفسائية، لا سيما العراق وسورية، ما يعني أن انحسار مكانة تيار الإسلام السياسي، وضمنه انحسار مكانة الإخوان المسلمين، تم بواسطة ما يصطلح عليه بـ»جمهور السنّة»، وليس بواسطة جمهور آخر. ولعل ذلك يفصح عن حقيقة مفادها أن جمهور «السنّة» لا يعرّف ذاته بالطائفة، ولا بالمذهب، وأنه لا يمكن لتيار اسلامي ما احتكار تفسير الدين، او الوصاية عليه، ما يفنّد، أيضاً، وجهات النظر المتسرعة، والساذجة، التي تبالغ في حديثها تطويب المجتمعات العربية «السنّية» لتيارات الإسلام السياسي بكل أنواعها. وأيضاً، فإن ذلك يفنّد الحديث عن وصم هذه المجتمعات باعتبارها حاضنة للتيارات الإسلامية المتطرفة والتكفيرية. فإذا كانت شعبية تيار الاخوان المسلمين في مصر أو تونس، وهو تيار شعبي ووسطي، تراوح بين 20 و25 في المئة في المجتمع، في وسط جمهور «سنّي»، فإن هذا يؤشر على أن الوضع أصعب، بالنسبة له، في المجتمعات التي تضم تكوينات مختلفة، كما يؤشر على ضعف شرعية الجماعات المتطرفة والتكفيرية في هذه المجتمعات، التي تستمد قوتها، في أغلب الأحوال، من معطيات ومداخلات وتسهيلات خارجية.
وإذا كانت التجربة في مصر وتونس فندت الفكرة عن وصاية الجماعات الإسلامية على جمهور «السنّة»، فإن التجربة التونسية فنّدت الفكرة عن استثناء التيار الإسلامي من النضح والتطور والتكيف مع الواقع والعصر والعالم. وفي الواقع فقد كان لحركة النهضة دور كبير في إنجاح العملية الديموقراطية وصوغ دستور ينص على دولة مدنية ديموقراطية تكفل حرية العقيدة والضمير وتصون حريات المواطنين (بالمناسبة فهذا الدستور يتقاطع مع وثيقة العهد والميثاق التي أصدرتها جماعة الاخوان في سورية في 2012). أي أن حركة النهضة الإسلامية قطعت شوطاً كبيراً في التحول نحو الديموقراطية والحداثة السياسية، في حين أن ثمة تيارات علمانية، قومية ويسارية وليبرالية وعلمانية لم تقطع بعد هذا الطريق، في عديد البلدان العربية، بمعنى أن فكرة النضح السياسي والتطور ومصالحة الواقع والعصر والعالم ضرورة لمختلف القوى، وليس للتيار الإسلامي وحده.
وإلى الاختلاف في طبيعة القوى الفاعلة، أي التيارات الإسلامية والعلمانية والجيش، ثمة دور لمنظومة الدولة في الحالين. ففي حين أن التراث البورقيبي لعب دوراً كبيراً في صوغ ثقافة مدنية راسخة، ومجتمع مدني، في تونس، بفضل منظومة قوانين الأحوال المدنية التي فرضها، وبواقع تمييزه بين المجالين الديني والمدني، وبحكم عدم تلاعبه بالمسألة الدينية، أو توظيفه الدين في خدمة السلطة، بمعنى أن المرحلة «الليبرالية» هنا عضدت وحصّنت المرحلة الديموقراطية. في المقابل فالدولة المصرية ظلت منذ عهد عبدالناصر إلى مبارك، مروراً بالسادات، توظف الدين في خدمة سياساتها.
ولنلاحظ أنه على رغم أن مصر أعطت حيزاً واسعاً للثقافة والفنون (والجامعات)، إلى درجة انها هيمنت على صناعة السينما والغناء في العالم العربي، فذلك كله لم يؤثر، مثلاً، في تغيير النظرة إلى المرأة، أو في تعزيز مكانتها في المجتمع، بالقدر الذي رسخته منظومة القوانين المدنية البورقيبية.
على أية حال فإن التجربة التونسية تفيد أنه لا يمكن إدارة أي بلد وفق سياسات الاقصاء والتهميش من أي تيار لتيار آخر، وأن الدستور والاحتكام للعملية الديموقراطية هما أساس العلاقة بين مختلف التيارات، وأساس التداول السياسي، وهذا ما ينبغي تعلمه والتعود عليه، من قبل كل التيارات الإسلامية والعلمانية، بتنويعاتها. |