لن ينحصر تأثير الاشتراعيات التونسية محلياً، بل سيتعداه إلى الصعيد الإقليمي، لأن التطبيع والخيار الديموقراطي باتا المخرج الذي لا بديل منه لتجاوز إشكالات السلطة والدولة ونفوذ التيارات المتصارعة، على اختلاف مشاربها. غير أن الديموقراطية لا تكون منتجة وفعالة، إلا في ظل وجود ديموقراطيين يرتضون نتائج المنافسات، حين لا تشوبها اختلالات. وما كانت الاستحقاقات الانتخابية نهاية، إلا في عقول من لا يقبلون أحكام صناديق الاقتراع.
كما أن انتفاضة التونسيين ضد الاستبداد التي حملت شعار «ثورة الياسمين» تمددت في كل الاتجاهات، وفجرت مكامن غضب الشارع في أكثر من بلد، فإن العملية السياسية التي تعرفها بقدر أقل من التشنج وتأجيج المشاعر، في طريقها لأن تحدث تياراً جديداً ينقذ ما تبقى من أحلام الربيع العربي الذي تعرض للقرصنة والاستحواذ واستغلال الفراغ الناشئ. ولعل أقرب بلد إلى جوار تونس الخضراء في إمكانه أن يفيد من الزخم المتواصل هو ليبيا التي أخلفت مواعيد مستحقة مع التغيير المنشود. فقد عبرت تونس إلى ضفة النجاة من حمى الاضطرابات، من خلال إقرار نوع من المصالحة التي نزعت فتيل الانفجار. ولم يكن الاتفاق على تشكيل حكومة تكنوقراطية انتقالية ترعى الانتخابات، غير القارب الذي جمع كل الفرقاء بوجهة واحدة، وإن تغايرت الحسابات.
لم يصل الاحتقان وأشكال الصراع إلى نقطة اللاعودة. لأن رصيداً من النوع الذي يخلد هيمن على العقول. ومن الإنصاف أن تونس في طريقها لأن تحصد الزرع الإيجابي الذي بذره الحبيب بورقيبة، مهما اختلفت خلاصات تقويم فترة حكمه وقيادته. فثمة نزعة ليبرالية تحكمت في توجيه مسار البلاد، بخاصة على مستوى التعليم وحقائق المناصفة بين الرجال والنساء والميل نحو إقامة نموذج مناقض لسيطرة الضباط العسكريين على مقاليد الحكم. وإذا لم يكن بوتفليقة حقق انتقالاً ديموقراطياً كبيراً، فإنه أرسى قواعد بناء مجتمع أكثر تحرراً ورفضاً لأشكال الهيمنة الفكرية والسياسية.
ليبيا في عهد العقيد معمر القذافي لم تكن بعيدة عن مسار حكم الضباط المصريين الذي كانت شغوفا به أكثر. وبالتالي فالوصفة البورقيبية الجديدة التي استندت هذه المرة إلى ميول الناخبين وأحكام صناديق الاقتراع، تبرز كأقرب الحلول الممكنة. في حال اهتدى الفرقاء المتناحرون إلى البدء بإقرار مصالحة تاريخية، تساعد الليبيين في التقاط الأنفاس والتطلع إلى ما يحدث إلى جوارهم وفي العالم. كانت العزلة من الخطايا التي ارتكبها النظام السابق، ومن المؤسف أن تداعيات الحالة ما زالت مستمرة، عبر أدوات ولاعبين ومتصارعين جدد.
بقوة الأشياء تكاملت العملية السياسية في تونس مع التجربة المصرية، وإن لم تعتمد المواجهة الصارمة. فقد تركت للناخبين اختيار حكومتهم، وإذا لم تكن «نهضة» تونس ابناً شرعياً مدللاً لحركة «الإخوان المسلمين» العالمية في كل التوجهات وآليات العمل ومنهجية الإقصاء، فإنها كانت أكثر فطنة ودهاء ومرونة. لا لكونها أذعنت للعاصفة، ولكن لأنها اختارت مواكبة المسار الطبيعي للتجربة الديموقراطية التي تخضع لقاعدة «اليوم لك وغداً عليك» وفي إمكان تيارات إسلامية أن تقتفي أثرها. والأقرب إلى تمثل الاجتهادات الواقعية أن حزباً مثل «العدالة والتنمية» الذي يقوده رئيس الحكومة المغربية عبد الإله بن كيران اعتمد الانفتاح على رفاقه في الائتلاف، بما في ذلك الحزب الشيوعي الذي صار اسمه «التقدم والاشتراكية». والحال أنه قابل العراك الذي انتقل إلى الشارع عبر إضراب المركزيات النقابية بنوع من التفهم.
في تونس كان الاتحاد العام حليفاً لخطوات التغيير وتوسط في أكثر من مناسبة لنزع فتيل الانفجار، وفي المغرب يضع الفرقاء كافة مسألة السلم الاجتماعي فوق أي اعتبار، وإن حدثت خلافات جوهرية مع السلطة التنفيذية. لكن الديموقراطية تنتعش في ظل الاختلاف. مع أن الوفاق يكون مطلوباً لتجاوز اللحظات الحرجة. وما من شك في أن التجربة التونسية سيكون لها بعض الامتداد إقليميا. فهي من بين الاستحقاقات الجزائرية والموريتانية لم تعرف ميلاً إلى المقاطعة، وهذا في حد ذاته ربح كبير لديموقراطية الوفاق التاريخي. لكن التجربتين المغربية والتونسية في إمكانهما أن يتكاملا على خط مستقيم وأن يضغطاً في الاتجاه الصحيح، لولا أن تحصين هذا المسار لا يرتكز فقط على البعد المحلي، فثمة مخاطر إقليمية أكبر تهدد المنطقة برمتها. ولا أقل من احتواء لهيب النار المشتعلة في الجوار الليبي. فمصر تمد يدها كما باقي الشركاء المغاربيين قبل فوات الأوان. |