نشأت الدولة الحديثة في المشرق العربي، كما حصل في معظم بلدان العالم، بذرة، أو مشروعاً استقطب اهتمام النخب الجديدة، التي حرر تفكيرها وتطلعاتها انحطاط الامبرطورية. ودفع الطموح إلى ملاقاة العصر في قيم الحرية والكرامة الإنسانية، التي بثتها الثورات السياسية في أوروبا، النخب الجديدة إلى جعل الدولة الحديثة مركز استثمارها الرئيسي، السياسي والفكري والمادي. ومن خلال هذا الاستثمار في الدولة، وبواسطتها، تجاوزت المجتمعات هيمنة الولاء الطائفي والعشائري والمناطقي التقليدية، ودخلت في مناخ المواطنة وفكرة العدل والمساواة والقانون. لكن، الدولة وعملية التحرر السياسي للأفراد لا تقوم في الفراغ، وإنما داخل بيئة إقليمية ودولية، وليس من الممكن فهم المصير، الذي آل إليه مشروع الدولة الحديثة في المشرق العربي، من دون فهم هذه البيئة الإقليمية، وما وضعته في طريق بناء دولة المواطنة الحديثة من عقبات ومصاعب، كان لها النصيب الأكبر في إجهاض المشروع بأكمله، والتراجع عنه نحو مناخات قروسطية، بالمعنى الحرفي للكلمة.
شكل موقع المشرق العربي الجيوسياسي، كنقطة تقاطع بين القارات الثلاث وحضاراتها، مركز جذب دائم للامبرطوريات الكبرى، منذ أقدم العصور. وباستثناء الحقبة التي أصبح فيها مركزا لامبرطورية مستقلة، في إثر الفتوح الإسلامية، كان المشرق عرضة لغزوات واجتياحات متقاطعة من الشرق والغرب والشمال والجنوب، على مر التاريخ. وقد تضاعفت أهميته الاستراتيجية أكثر، مع تشكل الامبرطوريات الاستعمارية منذ القرن الثامن عشر، والتنازع الذي رافقها على الممرات ومناطق النفوذ. لكن، تحولت السيطرة عليه إلى هدف أول للدول الكبرى في العصر الحديث، بعد شق قناة السويس طريقاً مائية استراتيجية، ثم اكتشاف النفط بكميات كبيرة في الجزيرة العربية، وبعد ذلك الإعلان أحادي الجانب عن قيام إسرائيل، بعد انتصار الغرب في الحرب العالمية الثانية. وبعد تفكك الامبرطورية العثمانية، وبالنظر إلى حالة التخلف السياسي والاقتصادي والاجتماعي الكبير، الذي عاشته الشعوب العربية في فترة احتضار هذه الامبراطورية الطويل، لم يكن من الصعب تحويل المشرق إلى منطقة تقاسم للنفوذ الدولي، الواسع والعلني، حتى تطابقت خريطة تشكيل دوله الحديثة مع خريطة توزيع مناطق النفوذ هذه، من قبل أصحابها أنفسهم، وربطها بالأحلاف الأجنبية. وهذا ما جسّدته على أفضل وجه الاتفاقية المسماة سايكس بيكو، والتي لا تزال تشرط مسيرة تطور الدولة في المنطقة حتى اليوم، وتثير ضدها تساؤلات واعتراضات كثيرة.
توازنات قوى ومصالح
هكذا تشكلت المنطقة في سياق جيوستراتيجي، جسّد توازنات قوى ومصالح، ليست لها علاقة كبيرة بشعوبها أو بالديناميات الداخلية أو الإقليمية، وخضعت لشروط جيوسياسية، تعزز، بشكل متزايد، افتقارها البنيوي إلى الحد الأدنى من الاستقلال عن قرارات الدول الخارجية الكبرى وصراعاتها. وستكون لهذه البنية الجيوسياسية الإقليمية آثار ونتائج كثيرة وخطيرة في تطور المنطقة، وتشكل دولها وتحالفاتها، وفي تبذير طاقاتها في النزاعات والحروب التي صارت مزمنة فيها.
تمس أولى هذه النتائج الدولة نفسها، وتشير إلى ولادة هذه الدولة، كدولة منقوصة السيادة، أي لا تملك قرارها، ولا تستطيع، بالتالي، أن تكون ممثلة في قراراتها لإرادة شعبها، وأن تستجيب لطموحاته وتطلعاته وآماله، إلا في حدود ما تسمح لها به الهوامش الضيقة والمحدودة، التي تتيحها لها اللعبة الدولية. وهنا تكمن أول بذور سوء التفاهم، ثم القطيعة المتزايدة بين الحكومات، مهما كانت اتجاهاتها السياسية والأيديولوجية، والشعوب، في تلك المنطقة، حتى كادت تهمة الخيانة لصالح الغرب تصبح السمة الغالبة على انتقاد الرأي العام حكوماته ومحور المعارضة السياسية، حتى مجيء الثورات العربية الأخيرة، كما أصبح العداء للغرب جوهر الفكرة التحررية الوطنية والاجتماعية على حد سواء. وفي هذه البنية الإقليمية، يكمن، أيضاً، عجز النخب الوطنية عن بناء سلطة شرعية، مستمدة من مشاركة الشعب وتأييده، فأصل مطلب السيادة للدولة هو ضمان سيادة الشعب، أي استقلال قراره عن مصادر التدخل الخارجية. ولذلك، كان شعار الدولة الحرة، أي ذات السيادة، مرتبطا بشعار الشعب الحر، فلا شعبَ حرٌّ في دولة منقوصة السيادة، ولا سيادة لدولةٍ لا يقف وراءها شعب حر قادر ومستعد، دائماً، للدفاع عنها. ولا يفسر الديكتاتورية الطويلة، التي سيطرت على المشرق العربي، إلا استبدال السلطة الشرعية القائمة على الولاء الشعبي، بسلطة الأمر الواقع، المحمية بالتحالفات الأجنبية.
هذه العاهة البنيوية والولادية في جيوسياسة الدولة المشرقية سوف تصبح مرضاً عضالاً، ومتزايد الخطورة، مع قيام الدولة الإسرائيلية، فقد أسقطت أجندة الغرب، للحفاظ على أمن إسرائيل واستقرارها ومكاسبها الترابية وضمان التفوق الاستراتيجي الساحق لها، كوسيلة ردع دائم للدول العربية عن مهاجمتها، وتقويض إسرائيل بالحروب والهجمات المتكررة والدائمة لصدقية الدول العربية وإفشالها، ورقة التوت الصغيرة عن عورة هذه الدولة، وحطمت هيبتها كسلطة سيدة في الداخل، وشجعت حركات التمرد والرفض والاحتجاج عليها.
والنتيجة الثانية تمس الإقليم ككل، وتشير إلى غياب فرص تطور العلاقات الإيجابية بين الدول، وبناء أسس السلام والتفاهم داخل المنطقة، والتقدم بها نحو حياة إقليمية سلمية ومشجعة على الاستقرار والتعاون والاستثمار، فقد بقيت منطقة المشرق محرومة من أية اتفاقات، أو معاهدات جماعية، حتى الآن. وباستثناء الاتفاقات الثنائية، لا يوجد أي إطار، حتى للتشاور، في ما بين الدول المتعددة والمتعادية، فارتباط سياسات دول الإقليم بمحاور وحمايات وتكتلات خارجية يقوض فرص بناء أجندة مشتركة إقليمية، كما أن الدول منقوصة السيادة تعجز عن التعامل بندّية وبناء علاقات تفاهم وتعاون إيجابية مع أقرانها من الدول المحيطة بها. وهذا ما يفسر جمود حقل العلاقات الدولية في المنطقة، وتثبته على الصيغ والتحالفات والمحاور التقليدية، القائمة على الإلحاق وشراء الولاءات، وفشل كل محاولات تغييره الداخلية، وهو ما تسعى النخب الحاكمة إلى التغطية عليه بتشييء مفهوم السيادة، وتحويله إلى شعارٍ، لا علاقة له بواقع الحال، الذي يشير إلى تراجع مستمر في قدرة هذه الدول جميعاً على التحكم بقرارها ومصيرها، وبالتالي، افتقارها المتزايد إلى المقدرة والسيادة.
ديكتاتوريات وتوترات
في هذه البنية الجيوسياسية شبه الاستعمارية، التي تحكم عمل الدولة المشرقية السايكس بيكية، نجد الجذور الطبيعية لتطور النظم الديكتاتورية من جهة، وتفاقم النزاعات والتوترات والحروب المستمر بين دول المنطقة، وإخفاقها في التوصل إلى أية آلية لتشكيل جماعة مشرقية متعاونة ومتضامنة، كما حصل في أوروبا وغيرها، سواء في إطار الفكرة العربية أو الفكرة الإقليمية المتجاوزة لها، من جهة أخرى. وفيها، أيضاً، نجد بذور الحرب الأهلية، التي ستفجر الدول من الداخل بعد نصف قرن، والحرب الإقليمية، التي سيفجرها غياب الاتفاقات الدولية الإقليمية، وسعي الدول القوية إلى التوسع على الطريقة البسماركية، لدمج البلدان الصغيرة، وإلحاقها بها، لتوسيع هامش مبادرتها تجاه الدول الكبرى، والحلول محلها في الهيمنة الإقليمية وبسط النظام. وفيها تكمن أسباب تكلس النخب والزعامات والمشيخات وتنامي المافيات المحلية المتنازعة، والمتنافسة على الزعامة والمجد، وحالة الاستنقاع الشاملة السياسية والاقتصادية والفكرية والدينية، التي عرفتها المنطقة برمتها.
والنتيجة الثالثة لهذه البنية الجيوسياسية الإقليمية، وتقويض فرص التفاهم داخل دول المنطقة وفي ما بينها، هي الحرب الدائمة الناجمة عن عدم الاستقرار، الذي تعيشه الدول والشعوب معاً، نتيجة الضغوط الداخلية والخارجية المتزايدة وتقاطعها وتعارضها، وانعدام فرص التنمية وغياب أطر التشاور والتعاون، والتوتر المستمر في علاقات الدول، وغياب الثقة المتبادلة، والبحث عن الحمايات الخارجية أو نزوع الدول إلى السيطرة. وفي النهاية، إخضاع أولويات الحكومات والدول معاً، وارتهانهما لمسائل الأمن، وتعظيم الإنفاق على الجيوش والأسلحة. والواقع تغطي آليات القمع الداخلي والنزاع الخارجي على افتقار الدول إلى أجندة وطنية، تجمع بين مصالح الأطراف المختلفة من مجتمعاتها وتوحد قرارها، كما تغطي على افتقار المنطقة عموما إلى أجندة إقليمية، توحد مصالح دولها، وتضمنها في مواجهة التكتلات الدولية الأخرى.
انهيارات وتدخلات متضاربة
والآن، مع انفجار الأزمة الإقليمية، الناجم عن اندلاع ثورات الربيع العربي، وسعي إيران إلى فك الحصار، الذي فرضه الغرب عليها، عن طريق تطويق الدول المشرقية واجتياحها وتكوين امبرطورية تابعة لها في المشرق، ومعانقة قوى الثورة المضادة في المنطقة وخارجها، وغياب أية أرضية قانونية وسياسية لتنظيم العلاقات بين دول الإقليم، وتضارب التدخلات والمصالح الوطنية والدولية، تشهد المنطقة انهيارات الدولة المشرقية، وتفكيك الإجماعات الوطنية داخل الدول، واستتباع جماعاتها وأحزابها ومكوناتها، وتحويل الانقسامات والتوترات الكامنة فيها إلى نزاعات وحروب ومواجهات، من كل الأنواع، مع استحالة حلها، لوجود القرار الحقيقي بين أيدٍ خارجية، وغياب التفاهم الدولي في الوقت نفسه. وفي كل يوم، تغرق المنطقة أكثر، وتصبح الدول نهباً للميليشيات المسلحة، وربما تجاوزت قوة هذه الأخيرة، في حالاتٍ كثيرة، الجيوش الرسمية، كما هو الوضع، اليوم، في دول عديدة في المنطقة في لبنان والعراق وسورية واليمن، إن لم تتحول الجيوش نفسها إلى ميليشيا تابعة للطغم الحاكمة.
هكذا قوضت هشاشة المنطقة الجيوسياسية واختراقها من القوى الخارجية، وحرمانها من بناء أرضية للمشاورات الإقليمية، أسس قيام دولة وطنية تعبر عن إرادة شعبها، وتنظم شؤونه وتقود مسيرته على طريق الخروج من بؤس الماضي وقرون الانحطاط الطويلة نحو آفاق الحرية والكرامة والأمن والسلام والتنمية والتعاون الدولي والإقليمي. وفي المقابل، شجع ضعف الدولة وفقدانها السيادة، وعجزها عن حماية شعبها، وردّ العدوان عنه، وغياب القدرة على بناء سلطة شرعية، وأجندة وطنية تعكس الحد الأدنى من الإجماع الوطني أو العقد الاجتماعي، وتعذر إقامة حياة قانونية سليمة فيها، توجه النخب والحركات السياسية نحو الحكم الاستثنائي وتعليق الدستور، ودمر الأسس، التي لا تقوم من دونها دولة، ولا تستقر بانعدامها أية حياة سياسية وطنية طبيعية، فأصبحت عاجزة عن النمو إلى دولة أمة فعلية، وعن تحقيق فكرتها في ما يخص علاقتها بالشعب الخاضع لها، وعلاقتها بالدول المحيطة بها، وتحولت، شيئاً فشيئاً، إلى مركز لمجموعة مصالح خصوصية، تستخدم فكرة الدولة وشعار الوطنية وحماية القانون أدوات في تحقيق سيطرتها الأحادية على المجتمع والتحكم في مصيره وشروط حياته، لحسابها الخاص، وفي سبيل حفاظها على مواقعها ومصالحها.
تحولت الدولة إلى إمارة، والإمارة إلى مزرعة، تحكمها العلاقات الشخصية والأهلية، وتتحكم بها المصالح الخصوصية.
وما حصل، بمناسبة ما سميناه الربيع العربي، هو هجوم الناس، الملوعين والمحرومين من الدولة ورعايتها والمحبطين من سوء أدائها على كل الأصعدة، على هذه الدولة المزرعة، ومحاولتهم انتزاع ملكيتها من مغتصبيها، وفي ما وراء ذلك انتزاع قرار المنطقة الجماعي من يد الدول الأجنبية، التي صادرته في العقود الطويلة الماضية.
استباحة الشعوب
والخلاصة، في منطقة مستباحة دولياً، لا تخضع لقانون سوى القوة، مفتوحة لكل الغزوات وحركات الاستيطان والتدخلات والاعتداءات والحروب الخارجية، لا يمكن لمشروع دولة حرة أن يتحقق، ولا لممارسة سياسة تحرير للشعوب أن تقوم. الاستباحة الدولية للمنطقة، هي الأرضية المؤسسة لاستباحة النخب والطغم الحاكمة للدول والشعوب، وغطاؤها في الوقت نفسه. لذلك، لن يكون من الممكن إعادة بناء الدولة، التي هي الإطار القانوني والسياسي الأنجع، في الوقت الراهن، لتنظيم المجتمعات، وتثمير جهود أبنائها وطاقاتهم وتلبية مطالبهم الأخلاقية والروحية والمادية، من دون إعادة بناء شروط الحياة القانونية والسياسية في المنطقة برمتها. ولن يتحقق ذلك من دون التوصل إلى اتفاقات ومعاهدات جماعية، تنظم شؤون الإقليم وتربط مصيره بقرار دوله ومجتمعاته وتفاهمهم، وتضع حدّاً للتدخلات الأجنبية، وسياسات الدكتاتورية البغيضة ومشاريع الهيمنة الإقليمية معاً، وفي السياق ذاته للصراعات والنزاعات والمظالم، التي أصبحت الخبز اليومي لأهل المنطقة، أفراداً وشعوبا.
|