الأربعاء ٢٧ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: تشرين الثاني ١, ٢٠١٤
المصدر: موقع العربي الجديد
أنظر إلى تونس - يحيى حسن عمر
(1)
زرت تونس في نوفمبر/ تشرين ثاني الماضي، طفت بكثير من مدنها وأرجائها، خصوصاً في الشمال، ونظراً لقلة المصريين في تونس، لا سيما في ذلك الوقت من العام، فقد كنت أرى الحفاوة كبيرة في كل مكان، وتجاذبت أطراف الحديث مع كثيرين في المناطق المختلفة، ومن مختلف الأوساط، ووضح لي، منذ الوهلة الأولى، وتأكد بمرور الوقت، أن مستوى وعي الشعب هناك أكبر بكثير من مثيله في مصر، فهم أكثر ثقافة وإطلاعاً، وأكثر إدراكاً لتجربة ما بعد الثورة وما يحيط بها من أخطار.

(2)

ومن المناطق التي زرتها منطقة سيدي بوسعيد، أجمل مناطق تونس العاصمة، وهي ربوة خضراء عالية، تطل على البحر الأزرق والجبال الخضراء وعلى تونس العاصمة البيضاء، وفيها مقاهي ومحال للتذكارات. دخلت أحدها فوجدت صاحب المحل وزوجته، وهي غير محجبة، وهما في الأربعينات من العمر، وأخبروني أنهم تجنبوا في تونس النزول للشوارع حرصاً على التجربة الديمقراطية من الإنقلاب عليها، على الرغم من الدعاوى المتكررة لذلك، وأن هناك محاولات مستميتة، إعلامياً وسياسياً جرت لحشد الناس للخروج، واستنساخ ما حدث في مصر، لكنها لم تنجح، كنا نعرف أننا بهذا سنهدم ما فعلناه، ونعيد النظام القديم إلى الحكم! (نقلنا منهم ثورتهم، وكنا نحاول أن ننقل إليهم خيبتنا.. تلك، إذن، قسمة ضيزى)!

(3)

عندما نزلنا في يوم 25 يناير/ كانون ثاني 2011، كان من أوائل هتافنا (يا محمد قول ليونس... بكره مصر تحصل تونس)، بل كنا، أحياناً، نهتف في ذلك اليوم باسم تونس، مجرداً (تونس)... (تونس)... (تونس)... كان مجرد ذكر اسمها وقتها يحمل معنى الثورة.

(4)

ونسينا أن الثورة التونسية هي المعلمة، وغرقنا في غمرة ادعاءاتنا، ونحن قوم نحب الادعاء، أن الثورة المصرية هي التي غيرت مجرى التاريخ.. إلخ. ونسينا أن الثورة التونسية هي المبدعة، وأن الثورة المصرية التالية مقلدة، وليس المقلد كالمبدع، ونسينا أن نسأل أنفسنا لماذا غاب عنا الخيال والإبداع والإقدام، حتى جاءنا من تونس، ولماذا حركتهم حادثة سيدي بوزيد، ولا تحركنا نحن الحوادث، وكيف واجهوا زين العابدين بن علي، وكان أطغى من حسني مبارك.. لم نتوقف عند تلك الأسئلة، وظننا أننا أدركنا تونس، عندما شاركت ثورتنا ثورتهم في إطاحة الحاكم، بل غرقنا في إدعاءاتنا بالتفوق، تلك التي لا يسندها في الغالب حجة غير التفاخر، ونسينا الأسئلة السابقة في خضم الأحداث، وكانت إجابة تلك الأسئلة ببساطة: إنه الوعي، جعل الثورة التونسية مبدعة، وجعل الثورة المصرية مقلدة، وهو الذي قاد السفينة التونسية حتى الآن أن تتجنب الجنوح، بينما رقدت السفينة المصرية في القاع، إنه الوعي، وعي الشعب ووعي النخب السياسية في مجملها، هذا كله عندهم في حال أفضل بكثير من الحالة المصرية.

(4)

النخبة التونسية نزلت إلى الشارع في مواجهة بن علي، ولم تفعل مثل محمد البرادعي الذي مازال أنصاره يعتبرون مأثرته العظمى أنه قال (لو أن مليون مصري نزلوا الشارع لسقط النظام)، ثم نام! من دون أن يفكر في تحويل هذه النظرية إلى واقع، أو دعوة الشعب للنزول أو البحث في آليات لإنزال هذا المليون إلى الشارع! كأن نيل المطالب بالتمنى، وكأن الدنيا لا تؤخذ غلاباً.

النخب التونسية الإسلامية كانت أكثر وعياً بالفخاخ المحيطة بها من مثيلتها المصرية، وكانت قيادات حزب النهضة في تونس أكثر وعياً من نظرائهم في القاهرة، وكانت نخب علمانية هناك، وياللعجب، أقل حقداً وسعاراً من نظرائهم في القاهرة الذين قرروا التحالف مع الشيطان، من أجل إسقاط الحكم المنتخب. حاولت نخب هناك تقليد ما حدث في مصر، لكن الأغلبية كانوا أكثر وعياً وحرصاً على وطنهم وتجربتهم.

(5)

وطبعًا كان هناك فوارق أخرى بين الحالتين، التونسية والمصرية، فليس للجيش في تونس دور في الحياة السياسية والاقتصادية بالدرجة التي عليها الحال في مصر، والوعي التونسي أكثر قدرة على فرز ما يقذفه الإعلام الفاسد والمأجور نحوه من تحريض وتجييش، كما أن الدولة العميقة والبيروقراطية والفساد أقل من نظيره في مصر، وصحيح أن هناك طبقة من صنائع بن علي والمستفيدين، لكنها ليست باتساع طبقة المستفيدين المصرية من مبارك وحكمه، فليست بالحجم الرهيب نفسه، كما هو موجود في مصر، ومن أهم الفوارق كذلك أن أهمية مصر وثقلها وموقعها ووضعيتها المحورية في ثقافة المنطقة جعلت الحرب فيها لإسقاط الثورة أكثر شراسة، والأموال التي دفعت لهذا الغرض بالمليارات، والحشد الأيديولوجي على آخره، وحرب المنتفعين مستميتة، والدول المرتعبة من ثورات الربيع العربي نزلت بنفسها وبوجه مكشوف في المعركة المصرية. 

(6)

لكن، تونس الحبيبة الجميلة الساحرة تنتصر للربيع العربي مرتين، مرة عندما بدأته، وأخرى عندما أكملته، أو على الأقل مازالت تسير فيه بوتيرة جيدة، على الرغم من كل المؤامرات، لا نريد أن نحسدهم، بينما تعثرت التجارب الأخرى. تونس تقدم المثال مرتين، بينما نغرق نحن في ادعاءاتنا الخائبة.

(7)

لذلك، عندما يتساءل عبد الفتاح السيسي: إحنا شايفين كل إللي حوالينا في حالة يرثى لها، نقول له: أنظر إلى تونس، عندما يتساءل هو وأنصاره: يعني كنتم عايزين مصر تبقى زي ليبيا وسورية واليمن؟، نقول بل تونس، عندما يقولون لك إننا لو أكملنا دون انقلاب 30 يونيو لوصلنا إلى نموذج سورية وليبيا، نقول: أنتم كنتم تقودون نحو هذا النموذج، بينما لو أكملنا الانتخابات التشريعية، لكنا قد أصبحنا على طريق تونس، لو قالوا لك إن كل القمع الذي يمارس منذ 3 يوليو كان حتمياً، وإن كل الإرهاب وامتهان حقوق الإنسان، بل السخرية والاستهزاء من كلمة حقوق الإنسان، ومن المنظمات المعنية به هو الطريق الوحيد، وبلا بديل أمام مصر، فرد عليهم بكل ثقة: كذبتم، فإن قالوا لك هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، فقل لهم: بسم الله الرحمن الرحيم....الإجابة تونس.



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
احتجاجات ليلية قرب العاصمة التونسية ضد انتهاكات الشرطة
البرلمان التونسي يسائل 6 وزراء من حكومة المشيشي
البرلمان التونسي يسائل الحكومة وينتقد «ضعف أدائها»
الولايات المتحدة تؤكد «دعمها القوي» لتونس وحزب معارض يدعو الحكومة إلى الاستقالة
«النهضة» تؤيد مبادرة «اتحاد الشغل» لحل الأزمة في تونس
مقالات ذات صلة
أحزاب تونسية تهدد بالنزول إلى الشارع لحل الخلافات السياسية
لماذا تونس... رغم كلّ شيء؟ - حازم صاغية
محكمة المحاسبات التونسية والتمويل الأجنبي للأحزاب...
"الديموقراطية الناشئة" تحتاج نفساً جديداً... هل خرجت "ثورة" تونس عن أهدافها؟
حركة آكال... الحزب الأمازيغيّ الأوّل في تونس
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة