لم تسقط كوباني. وهي قد تتحول إلى درسٍ عملي آخر بعد ذلك المُنفَّذ شمال العراق على إمكانية مواجهـــة تنظيم الدولة الإسلامية وبداية انحسار وجودها ومشروعها بفضل اجتماع مقاومة المقاتلين الكرد المدافعين عنها وبعض مجموعات من الجيش السوري الحر نادراً ما يُشار إليها، مع الضـــربات الجوية للتحالف الدولي ضد الإرهاب والتــي قامت بالأساسي منها طائرات اميــركية انطلقت من بلدانٍ عربية خليجية وليس من تركيا القريبة التي تمسّكت بمنع التحالف من استخدام قاعدتها الجوية في انجرليك وسط سجال مع واشنطن لا يزال مفتوحاً ومتشعباً.
والحال أن الحكومة التركية زاوجت خلال المرحلة الأخيرة بين موقفين «حيَّداها» عن الفعل المباشر. فاشترطت للمساهمة الفعلية في التحالف الدولي ضد «الدولة الاسلامية» قبوله العمل على إنشاء منطقة آمنة محمية بحظرٍ جويٍ بعمق 30 كلم داخل سورية لإيواء اللاجئين واستقبال «المعارضة العسكرية المعتدلة» وتدريبها بهدف إسقاط الأسد، في حين رفضت تدخل قواتها المحتشدة على مشارف كوباني لإنقاذها براً و/أو تمرير سلاح غربي ومسلحين أكراد إليها. وهو «حيادٌ» صار بدوره أداة تضخيم إعلامي دولي لمسؤوليتها، خصوصاً بعد قمعها تظــــاهرات اكراد تركيا الشاجبة له وقصفها مواقع حزب العمال الكردستاني الحدودية وشيوع التلميحات إلى دعمها «داعش». ما حوَّل قضـــية كوبــــاني إلى ولاَّدة لاستئناف توترات قديمة وصيغ جديـــدة حول المسألة الكردية والوضع السوري وصــلاتهما المتبادلة في سياق حراك التحالف الدولي وحربه المعلنة على «داعش».
ثمة ملاحظات ثلاث يمكن تسجيلها انطلاقاً مما سبق:
الأولى أنه فيما كانت كوباني تتحوَّل عالمياً إلى رمزٍ ثلاثي الأبعاد كردي تحرري وإنساني و «أنتي» أصولي، فإن التركيز الإعلامي على مسؤولية تركيا أدَّى نسبياً إلى حجب المسؤولية التأسيسية للنظام الأسدي في ما آلت إليه اوضاع كوباني وإزاحة النظر عن وجود «كوبانيات» مماثلة لا تلتفت اليها الخطط والتصريحات الأوبامية ولا الميديا. وهو انزياحٌ خلق توتراً مضافاً مع بعض المعارضة السورية الذي رأى فيـــه دعماً لفريق كردي «انفصالي» وغير ديمـــوقراطي ومتهم بالتعاون مع النظام الاسدي فيما تستمر حرب الاخير المدمرة وحصاره على وعر حمص الذي لا يزال يضم 300 ألف مقيم وحي جوبر وسواه، في حين ان كوباني تكاد تخلو من المدنيين الذين لجأ معظمهم الى تركيا. وهــو شعور مُبالِغ يتناسى ارتباك المعارضة الطويل أمام تحديد موقف من توقعات الكرد السوريين من الثورة والمتراوحة بين اللامركزية الواسعة والانفصال مروراً بالفيدرالية. وهي توقعات بدوا غير مستعدين لإرجائها استناداً إلى وعودٍ بدولة ديموقراطية أو مدنية بعدما خضعوا طويلاً لاضطهاد مزدوج سياسي - ثقافي كأكراد وكسوريين، هذا إذا لم نذكر مئات ألوف الأكراد الذين حُرموا الجنسية.
الثانية، إبعاد الأضواء عن النواقص الجوهرية في خط التحالف وقيادته الأميركية، سواء لجهة غياب الاستراتيجية أو لجهة تحقيق شروط سياسية ضرورية تحدَّث عنها اوباما نفسه لضمان إشراك قوى «سنية» عاملة على الأرض في سورية والعراق من دونها لن تكفي الضربات الجوية وحدها لضرب «الدولة الإسلامية». إذ إن حصر الهدف الرسمي للتحالف بالقضاء على «داعش» حصراً وحتى لو غطَّته واشنطن بذرائع من نوع الانسجام مع قرارات الشرعية الأممية وتفادي الصدام مع ايران وروسيا لا يفعل غير إبعاد «السنّة» عن المشاركة وزيادة الأخطار على «الحكومات السنّية» وهلهلتها أمام «داعش» والحركات الجهادية، بالتزامن مع تعرضها لهجماتٍ تطويقية من القوى الحليفة لإيران كما في حالة حوثيي اليمن.
الثالثة، ان التركيز الاعلامي على الهجمة «الداعشية» في كوباني والذي استفاد من صورتها كقوة بربرية يتقصَّد هو ذاته تضخيمها لتخويف السنّة واستتباعهم وبث الرعب في صفوف أعدائها، سفَّه المشروعية النسبية للمطالب التركية من واشنطن والتحالف وجرَّم خلفياتها من دون نقاش أسبابها. كما حجب أثر بعض الاعتبارات العملية المتصلة بمسؤولية أطراف أخرى عن تشجيع هذا «الحياد» العملي وفي مقدمها معارضة ايران الواضحة ومعها روسيا لأي تدخل تركي أرضي ومصالحها الاقتصادية الكبيرة معهما وأخطار قوتهما العسكرية بغياب الادارة الأميركية الحازمة وتردي العلاقات معها لأسبابٍ كثيرة.
كما أن ما طُلِب منها لجهة السماح بتمرير مقاتلين أكراد غير سوريين إلى كوباني (اتراك بغالبيتهم) كان مُنتظراً أن ترفضه لإمكانية تدعيمه الجناح العسكري في حزب العمال الكردستاني الذي تتأخر خريطة الطريق التي وعد بها اردوغان المتزايد اوتوقراطية للتسوية السياسية المنعقدة مع زعيمه المسجون أوجلان، على رغم إقرار البرلمان قبل أشهر حزمة الإصلاحات الخاصة بالقضية الكردية التي وصفها أوجلان بـ «التطور التاريخي».
وبمعنى ما، فإن التركيز الاعلامي الغربي على إنقاذ كوباني له بالطبع كل ما يبرره انسانياً أولاً ولكونه يتصل بشعب مضطهد ثانياً، إلا أن إهمال نظائرها السورية لا اخلاقي بالمقدار نفسه. لكنه إهمالٌ لا يتحمَّل مسؤوليته اهل كوباني ولا الأكراد بعامة، بل القوى التي تواصل مساعدة نظام الأسد بالسلاح والمقاتلين وتمنع اتخاذ اي قرار دولي ملزم لمعاقبته ولفرض تسوية سياسية، وكذلك الولايات المتحدة بصفتها القوة الدولية الكلية التي تراجعت قيادتها الأوبامية أمام معسكر الاستبداد العالمي وسعيه الحثيث الى إعادة النظر بمكاسب «النظام الدولي» لجهة «حق التدخل الإنساني» و «واجب الحماية» والتي لا تستطيع التذرع بجهل مخابراتها بوقائع تهيؤ التربة والأدوات لنمو المسوخ الجهادية أمام ناظريها.
ومع ذلك، كان يمكن القوى الكردية وخصوصاً حزب العمال الكردستاني قوتها العسكرية - السياسية الرئيسة في جهتي الحدود، أن تكون أقل تجاهلاً للمطالب الرسمية المعلنة لتركيا بما يخفف التوتر ولا يهدد مكاسب التسوية معها ويُجسّر العلاقة مع سائر فصائل المعارضة السورية المعادية لـ «داعش» وحواضنها الشعبية التي ترى مصلحة مؤكدة لها بفرض المنطقة العازلة التي أيدتها فرنسا - المؤيدة تقليدياً للقضية الكردية - وحدها بين الدول الغربية والتي تستجيب حاجة إنسانية عاجلة - وضمنها الكردية - بعدما تجاوز اللاجئون السوريون إلى تركيا رقم المليون ونصف المليون.
كان لذلك أن يخــفـــف تسيُّد الخطاب الشوفيني المتعـــدد المصـــادر وأضراره الآن وغداً. ولكن... |