برنارد تابي، رجل الأعمال والسياسي الفرنسي الذي لمع صيته في الثمانينات من القرن الماضي في فرنسا، لا يقل تعلقاً وتوظيفاً للكرة في السياسة من صنوه رئيس الوزراء الإيطالي الألمعي، سيلفيو برلسكوني. كان الأخير يلاعب الكرة البيضاء والسوداء، بقدر ملاعبته شقراوات روما. وتقول ألسنة السوء، اليوم، إن تراجع برلسكوني عن السياسة لا يعني تراجعه عن لعبة النفوذ، خصوصاً في ما يتعلق بالملعب المتوسطي الجنوبي، أي في ما يتعلق بما حدث ويحدث في شمال إفريقيا. وبخلاف برنارد تابي الذي حمل معه أحلام السياسة إلى غير رجعة، يتمتع رجل النفوذ الإيطالي، من خلال علاقاته القوية مع رجل الأعمال السعودي، الوليد بن طلال، ومع رجل الأعمال التونسي، طارق بن عمار، بتأثير قوي وواضح على رجال أعمال في ليبيا وتونس والجزائر.
وبما أن ألسنة السوء لا تعرف حداً، ولا موانع، فهي تضيف أن صعود نجم رجل الأعمال ورئيس فريق النادي الإفريقي التونسي، سليم الرياحي، ربما قد يعود إلى توجيه وتدريب من مكتب تسويق سياسي إيطالي قريب من برلسكوني. هذا ما قد يفسر الشراسة القتالية للرجل، وتطور، بل وتحسن أسلوبه الاتصالي مع الناس، وتطوير طرق التعبئة والتسويق السياسي لديه. بل هذا ما يفسر النجاح الذي بات يلقاه الرجل، وفريقه السياسي في الأحياء الشعبية التونسية، أيام الحملة الانتخابية الراهنة. إنها الوصفة السياسية نفسها التي سلكها برلسكوني: مال ورياضة وسياسة وإعلام.
هذا ما قالته "ألسنة السوء"، أما ما قالته لنا العصفورة، فهو أمر مختلف. قالت إن ظهور حزب ذي مرجعية "كروية" ربما قد لا يكون أمراً سيئاً بالقدر الذي قد يتصوره بعضهم. كما قالت إنه وبخلاف ما قد يعتقد بعضهم، فإن علاقة السياسة بالكرة وبالرياضة ليست بدعة تونسية، ولا متوسطية، وإنما تمتد إلى عمق الترابط بين العقل واللعب والتلاعب السياسي بالمشاعر. فما الفرق بين زعيمٍ لعوب، يجيّش الناس باسم الأمثال الشعبية الثقيلة الظل، والتي تذكرنا بمجتمع الباشوات والآغوات وأرستقراطية المماليك، ومن يجيّش باسم الهوية، ومن يجيش باسم الجسد الرياضي، المفتول منه والبدين؟ ثمة خيط رفيع بين هؤلاء جميعاً. لكن، كما يقال: من كان بيته من زجاج، فلا يرمي بيوت الناس بالحجارة.
تذكرتُ كلام "ألسنة السوء" هذا، وحديث العصفورة ذاك، عندما شاهدت مقاطع من برنامج، أنتج خصيصاً لتقديم المرشح الرئاسي رجل الأعمال التونسي، سليم الرياحي، في قناة تعمل لفائدة مرشح منافس. ولأني لا أريد، هنا، أن أكون محامياً للشيطان، رأيت من الحكمة وضع الأمور في نصابها. فأنا، وبلا أحلام زائفة، ممن يرون أن الكذب من سمات معظم رجال السياسة تقريباً، ومن العبث أن نجعله مقتصراً عن شاب ثريٍّ ونكرة، غامر في دنيا السياسة، من دون أن ينتمي إلى طبقة أرستقراطية المماليك التقليدية.
وقصة الرياضة في علاقتها بالسياسة، لا تقل فرادةً وطرافةً عن علاقة السياسة بالدين والجنس والفن، وحتى قراءة الطالع لدى قارئة الفنجان، كما كان الحال مع الرئيس الفرنسي، جاك شيراك، الذي يذكر أهالي توزر، في الجنوب التونسي، زياراته المتعددة إلى عراف البلدة في كل آن وحين. وعودة إلى الرياضة، أقول إنه، ومنذ أقيمت الدورات الأوليمبية، احتاجت الأخيرة إلى قرارات الأباطرة السياسيين، لكي تستمر، وتأخذ المكانة التي وصلت إليها، كما أنها توقفت، غالباً، بقرار إمبراطوري. بهذا المعنى، كانت الرياضة دائماً في خدمة السياسة والمال. ومع ذلك، العبرة، أحياناً، بالنتائج.
ولنتذكر، هنا، أن كرة القدم كانت في أساس تكون دول إفريقية، استلهمت هويتها من خلال الكرة المجنونة، وجعلتها رمز تهليل وتقديس، عوّضت رموز التهليل الطوطمية القديمة. رفض الملاكم محمد علي (كاسيوس كلاي) ميدالية تكريم، احتجاجاً لرياضي حر على معاملة المجتمع العنصري؟ ومن الوجه الآخر والمعاكس، لسنوات، وبسبب الحربين العالميتين، استغل موسوليني استضافة كأس العالم سنة 1934 في إيطاليا للدعاية لنظامه الفاشي، وكذلك فعل هتلر مع أولمبياد برلين عام 38، وعوقبت ألمانيا المنهزمة في الحرب، بتغييبها عن البطولات العالمية التي تلتها. وفي السبعينات، عادت السياسة لتطل برأسها على الرياضة عبر المقاطعة الإفريقية لدورة مونتريال عام 1976 بسبب التعامل مع جنوب أفريقيا العنصرية وقتذاك، وتصاعد الأمر إلى ذروته بالمقاطعة الأميركية والغربية لأولمبياد موسكو في سنة 1980.
أبعد من هذا وذاك وأهم: أحياناً، تتداخل الرياضة بالسياسة والدين، وتكون القنبلة الموقوتة في مضجع كل مواطن، ولكن الأمر لا يعيق الديمقراطية، ولا يبرر تحويلها إلى حرب واقتتال وتشويه وضرب من تحت الحزام الآمن. تذكروا ما كان يحدث بين فرق ذات نزعة طائفية ودينية مثل Glasgow Rangers في إيرلندا، منذ أعوام طويلة، وفريق خصم ثان كاثوليكي الهوى والانتماء، ونعني به Celtic FC. ومن دون أن نبتعد في اتجاه الشمال، لنتذكر كيف أنه في عام 2007 إلى أي حد كان انتصار العراق في كأس الأمم الآسيوية منعرجاً لظهور لحمة وطنية عابرة للطوائف، سريعاً ما كذبتها أوهام السياسة وأمراء الحرب.
ولا ننسى أن تزايد الظاهرة السلفية الجهادية، وتصدير الشباب إلى ساحات الموت وحالات الإحباط العنفي، تزامنت في تونس مع غلق الملاعب في وجه الجمهور، وتحول جماعات "الألتراس" إلى جماعات سلفية تتقن فن الذبح.
هناك من قال: لو خيّرت بين الحب والحرب، لاخترت الحب طبعاً، ولو خيّرت، اليوم، بين سياسةٍ بنكهة رياضة وسياسة "الأراجوز" الكئيبة لاخترت سياسةً بروح رياضية. ولنتذكّر، أخيراً، أن تعدد المشهد السياسي ودخول لاعبين جدد فيه، ما لم يتورطوا في شراء الذمم والأصوات بالأموال، ليس سوى إثراء للمشهد. وماذا لو كان المرشح كروي الهوى، واستقطب شباباً يعيش أعمق أزمات الانتماء. أقولها وأمشي لكل من يظن أن السياسة هي كتابة للشعر على حجر الصوان: أنتم إما مخطئون، أو سذج، أو منافقون، أو ذلك كله في وقت واحد... مع الاعتذار.
عبد الوهاب بن حفيظ رئيس منتدى العلوم الاجتماعية التطبيقية، وأستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة تونس.
|