في محطات كثيرة كانت القوى السياسية اللبنانية، وهي في حواصلها أهلية، محمولة على إنكار ولائها لخارج ما. هذا الإنكار كان تبادلياً بين هذه القوى وينهض على تواطوء في ما بينها. إذ كانت كل قوة أو جماعة تسارع لتحوز من البلاد شيئاً تعزز به حضورها في موازاة غيرها، ومن دون أي اعتبار لواقع الدولة، أهلاً ومؤسسات.
على مدى التاريخ اللبناني لم تتشكل لوحة سياسية لهذه البلاد، على هذا القدر من الاستفزاز، من دون أن تترافق مع اقتتالات وشرور مستطيرة من كل حدب وصوب. ويكون من نتائج انبعاث الشرور المستطيرة واندلاع العنف، أن البلاد تصبح أكثر من واحدة، متشظية ومتناثرة وغير قادرة على البقاء.
في تاريخ لبنان، لم يحدث أن أراد اللبنانيون بأنفسهم وقرروا سلوك مثل هذه المسالك. دائماً كان ثمة خارجٌ متحكّم ومقرِّر في شؤونهم، يضطلع بوظيفة تغليب طرف على آخر. والحال هذه، فالقرائن كلها توحي أن ثمة تكراراً مريراً لتاريخ النزاعات اللبنانية من دون تغييرات تذكر، اللهم إلاّ في ما يخص طموح كل جماعة على حدة.
إذاً، فليبتهج اللبنانيون بما آلت إليه حالهم التي فاقت مثيلاتها القليلات صلفاً ورغبة بتقطيع الأوصال. ذلك أن الإرادة السياسية الخارجية الآن لا تغلّب طرفاً أهلياً على طرف آخر وحسب، بل تغلّب مناطق على أخرى، إلى حدّ أنها تبدو إرادة التفريق والتشتيت من دون منازع.
أيضاً وأيضاً، فلنبادر إلى تهنئة مُعدّي سيناريو تقطيع أوصال البلاد وأهلها، والمخرجين والمنفذين، على نجاحهم في جعل لبنان "ساحة" لقياس قواهم في المنطقة، كما لنجاحهم في جعله نقطة إنطلاق نحو الخريطة الدولية.
جميعهم مهمومون بلعب أدوار بحسب أحجامهم في الدول الفاشلة كلبنان. لكن لا تستوقفهم رثاثة التعليم والاقتصاد والصحة وسعير العصبيات المذهبية والقبلية. كما لا تستوقفنا "نحن". جميعنا يفرح جذلاً بتبرؤ هذه العائلة أو العشيرة أو البلدة والدسكرة من فعلة ارتكبها أحدٌ ما. هكذا نمضي لمواجهة معضلات تراكيبنا الموروثة، أو المفتعلة أحياناً بدواعي العرف والتقليد. الأمر يستحق أكثر من تهنئة لكل الخارج الذي يستخدمنا ضد ذواتنا أولاً. إنما ماذا بعد؟ صدام بين مكوّنات الصيغة اللبنانية؟ ربما، لكن بعض مكوّنات هذه الصيغة، صار يختلف عن أسلافه ونحا مناحي النهوض الديموقراطي منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري وغيره من الساسة وقادة الرأي، ما أفضى إلى اندلاع "ثورة الأرز".
في العام 2005 لم يعد اللبناني مجبراً على الاختيار بين إسرائيل وسوريا مشفوعاً بشغف الرضاء الأميركي. صار هؤلاء يختلفون في مقاربتهم لأمور وطنهم وشجونه. لاح في الأفق "لبنان الدولة المستقلة"، لكن ذلك بدا تهويماً سياسياً في ظل ردّ بعض اللبنانيين بالسلاح وبالإصرار على الإنتماء إلى "محور المقاومة والممانعة".
الذين خرجوا على الهيمنة الإستخباراتية والعسكرية السورية المديدة، هتفوا حتى بُحّت حناجرهم، أن لبنان الدولة هو قبل الطائفة والمذهب والمنطقة. كان الحراك السياسي العارم آنذاك، محاولة جدية لتوكيد هوية تحمي الجغرافيا من عنف الخارج. لكنه لم يكتب لهذه المحاولة نجاحٌ ما، جرّاء السقوط في "جاذبية عرض القوة" عبر الاستقواء بالخارج على الداخل. وحده الزعيم وليد جنبلاط تنبّه الى الأمر. لكنه جاء متأخراً إلى "وسطية" لم تفعل غير توكيد التقطع بين الجماعات المكوّنة للبلد.
بين بلاد الله المتعددة والمترامية، يكاد لبنان أن يكون البلد الأوحد الذي يوكل إلى أبنائه قرار انتمائهم إليه. فاللبناني لا يولد لبنانياً، بل يولد ابن عائلة وطائفة وقرية، ويتعلم باختبار المآسي أن يكون لبنانياً.
في لبنان لا توجد دولة أو مؤسسات أو قوى سياسية أو تنظيمات إجتماعية تعلّمنا كيف يكون الانتماء إلى الوطن بديهياً، وأن الوطن مساحة تحكمها القوانين وليس الأعراف والعادات والعصبيات. ولأن هذا البلد هو الوحيد - على الأقل - بين الدول العربية، الذي يصبح فيه المرء مواطناً بالاختبار لا بمجرد الولادة وإبصار النور في ربوعه وتحت سلطان دولته وسيادة قوانينها، فإن الحاجة الملحة هي في استبدال هوية غريبة التشكل، بأخرى سياسية تقدم الانتماء إلى لبنان على الانتماء إلى جماعاته ومناطقهم التي صارت معازل مقفلة بعضها في وجه البعض الآخر.
مثل هذه الهوية لا تعني عنصريةً ضد الآخر، ولا تتوخى أن تلغي الاختلافات الطبقية والمناطقية والمذهبية والثقافية بين اللبنانيين، أو تنفيها، لكنها تسعى إلى جعل الإهتمام بالشأن العام مشروطاً بعبوره بين الطوائف والفئات والمناطق والأفكار، ورذله لكل إرادة خارجية تريد من لبنان "ساحةً" أو محافظةً.
أن يكون لبنان دولة لها هوية ومستقبل لبنيها، فذلك يعني أول ما يعني، أن مصلحة البلد العليا تقع موقعاً رفيعاً يفوق في رفعته موقع الطوائف والتيارات السياسية والانتماءات المناطقية أو الحزبية. هذا الوعي الأوّلي لا يطمح أن يكون حزباً في مواجهة أحزاب أخرى، وهو أيضاً لا يطمح أن يحلّ محلّ القوى الطائفية والفئوية والمناطقية، التي كانت دائماً موضع استخدام من الخارج.
الوعي هذا، يطمح لخوض صراع مجدٍ مع هذه القوى، مقدِّماً مصلحة لبنان على مصالحها. أما الحديث عن مصلحة لبنان وتحديد الأساسيات التي تقوم عليها، ومبادئها العامة، فأمر لا يمكن لأحد الإدعاء باحتكاره إحتكار العارف والعالم.
مصلحة لبنان من الأمور التي يمكن أن تخضع لإجتهادات ومناقشات، لكن تلمسها ومقاربتها لا يتمّان من موقع فئوي، يغلّب الهواجس الفئوية لمنطقة أو طائفة أو فئة اجتماعية على الهواجس العامة والتحديات التي تحيط بالبلد من كل الجهات، ولا من موقع التهويل على البلد وأهله بالسلاح، ولا من موقع المانح شهادات الوطنية الممتدة حبائلها من بيروت إلى واشنطن مروراً بكل عواصم الدول الساعية الى موطئ قدم لها في بلاد الأرز العليل.
التحديات التي تحفّ بلبنان لا يمكن تعيينها من دون اعتبار جدي للهواجس المختلفة، والعمل على معالجتها والدفع في اتجاه استقرارها. فالتحديات الخارجية والداخلية التي تجبه البلاد، لم تكن يوماً ولن تكون موجهةً ضد فئة بعينها من دون فئة أخرى. والحروب يتحمل نتائجها جميع اللبنانيين، والإزدهار الاقتصادي تعمّ فوائده على الجميع، والأزمات المعيشية تطاول الجميع. الأهم أن احتلال جزء صغير يعطل قدرة الدولة اللبنانية على تحقيق سيادتها التامة على أراضيها.
على هذا، فإن المصير مشترك بين اللبنانيين، وينبغي أن يكون التخطيط للمستقبل مشتركاً والانتماء إلى البلاد همّاً عاماً لا يفرّق بين أحد وآخر، أياً يكن. صحيح أن اللبناني لا يولد لبنانياً، لكنه حين يتعلم أن يصير، يتنبه أن هذا البلد هو البلد الوحيد الذي لا يطمع بأراضي جيرانه.
لبنان، بلداً وأهلاً حتى في تنافر هؤلاء، لا يملك مشروعاً أمبراطورياً أو إقليمياً يهدف إلى الهيمنة على أراضي الغير أو احتلال جزء منها. هكذا كان، إلى أن ركب "حزب الله" مغامرة تجاوز الحدود نحو سوريا والوقوف إلى جانب نظامها القابع فوق صدر شعبه منذ أكثر من أربعة عقود.
الأرجح أن "حزب الله" في مغامرته، أسقط كل احتمال بالعودة إلى بناء البلاد منذ لحظة "14 آذار" في العام 2005. انخراط الحزب "الإيراني الهوى والفؤاد" في الصراع بسوريا وعليها، وضع البلاد من دون إرادة بنيها في مهبّ الأسئلة العصية على الإجابة. حسناُ، ماذا بعد؟ صار لبنان شكلاً من الدول المهيمنة أو المحتلة وتريد تقديم مصالحها الحيوية والأساسية على مصالح لبنان الحيوية والأساسية. لكن ما هي المصالح التي يتوخاها البلد من سوريا غير ترسيم حدودها معنا للتحرر من عبء استخدام مزارع شبعا في عروض القوة بالداخل؟ "حزب الله" لا يريد ذلك حتماً، ولو كان العكس صحيحاً لما اعترض في الأقل على المساعي إلى ذلك مذ أُضيفت المزارع بقدرة قادر إلى الخريطة اللبنانية. الحزب مهتم ومشغول البال، أطراف الليل وآناء النهار، بحضور إيران الإقليمي والدولي. هذا يعني، في جملة ما يعني، أنه لحفظ البلاد من الضياع والتبصر بشيء من مستقبلها، علينا الرضوخ لمطامح إيران التي تستخدمنا لمناكفة المحيط، وبعض الداخل.
ما فعله "حزب الله" سبقه إليه اليمين واليسار على حد سواء لجهة ركوب المغامرات وجعل البلاد سكاناً لا مواطنين. كان اللبنانيون مذ قرروا الالتحاق بالمحاور الإقليمية والدولية، "دواعش" بعضهم في حق البعض الآخر، وقبلاً كانوا "دواعش" في حق مواطنتهم التي نكّلوا بها تنكيلاً. فلم تحدث حرب لبنانية ضد إسرائيل من دون متعلقات عربية وإقليمية ودولية. كانت حروب لبنان دائماً خارجية مئة في المئة وداخلية مئة في المئة، وكذلك سلامه.
صحيح أن العالم متداخل المصالح والارتباطات، لكن هذا يصبح رهيباً متى كانت هذه الارتباطات من طبيعة أمنية وعسكرية. هذا ما ذهبت الحوادث إلى اثباته في العام 2005. حينها قرر شطر كبير ووازن من اللبنانيين أن يخوض معاركه بشكل سلمي وديموقراطي، لكن شطراً واسعاً ردّ عليه بخوض معاركه تحت علم السلاح والارتباط بمحاور إقليمية ودول ذات مطامح أمبراطورية.
على هذا، هل يصر السلميون على سلميتهم؟ لا معطيات تفيد أنهم يريدون امتشاق السلاح، لكن الطرف الغالب في المعادلة اللبنانية يرى في هذا النزوع السلمي ضعفاً، وهو لذلك يرتّب انتصاراته على أساس أن الطرف الآخر غير قادر على المواجهة، فهو طرف مسالم ولا قبل له بالمعارك والأسلحة والصواريخ. لكن السلمية يجب ألاّ تعني ضعفاً. ذلك أن أسباب القوة التي يحوزها أطراف البلد الواحد يجب ألاّ يدخل السلاح ضمنها. أما وأن هذا السلاح في لبنان حاسمٌ، وثمة مَن يصرّ على استخدامه في كل حين، فذلك يوحي أننا أصبحنا في "جمهورية متقطعة"، على ما يقول المفكر والمؤرخ أحمد بيضون. كما أن لبنان أصبح يحوي سكاناً أو نزلاء، لا مواطنين.
الأرجح أن شرط استعادة البلد وحدته وبناء هويته واحد من اثنين: إما الكف عن استخدام السلاح، وإما استخدام السلاح كله ومن دون حواجز أو روادع من أي نوع. لبنان ينتظره مستقبل لا ملامح له. وإن غداً لناظره قريب. إلى حينه ليس لنا إلا النص القرآني: "وبشِّر الصابرين...". |