لم يحمل قرار جمعيات سياسية معارضة في البحرين مقاطعة الانتخابات النيابية والبلدية مفاجأة كبيرة، وقد جرى الإعلان عنه السبت 11 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، ويتعلق بالانتخابات المقرر إجراؤها 22 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. فقد سبق لجمعية الوفاق الوطني الإسلامية التي تقود المعارضة أن سحبت 18 عضواً لها من مجلس النواب في فبراير/شباط 2011، وقاطعت انتخابات دورتي 2002 و2006. وتتبنى الجمعية مواقف ثابتة، بخصوص الحوار الوطني الذي سبق أن قاطعته، لجهة تحديد وجهته وأجندته ورعايته، وبخصوص مطالب أخرى، كالحكومة المنتخبة، والإفراج عن معتقلين، وما تسميه التجنيس السياسي، وتقسيم الدوائر الانتخابية الأربعين (40 نائباً، يقابلهم 40 عضوا معينا لمجلس الشورى، يمثلون معاً "الغرفة البرلمانية") وإلغاء مجلس الشورى، وقد أوقفت مشاركتها في الحوار في سبتمبر/أيلول 2013، احتجاجا على اعتقال أحد النواب المستقيلين، ومساعد رئيس جمعية الوفاق، خليل مرزوق، بعد أن اتهمته السلطة بالعلاقة مع "ائتلاف 14 فبراير" السري الذي تتهمه السلطات بالإرهاب.
لا مفاجأة
لم يحمل قرار المقاطعة، إذن، مفاجأة كبيرة، بالنظر إلى جملة المواقف والسياسات التي تعتمدها "الوفاق"، والتي يندرج الموقف الجديد في سياقها، لكن البيان الطويل الذي تمت تلاوته، في المؤتمر الصحافي الذي جرى فيه إعلان القرار بالمقاطعة، تضمن ما يستحق التوقف عنده:
فالإعلان عن مقاطعة أربع جمعيات للانتخابات لم يقتصر على مخاطبة أعضاء هذه الجمعيات، لكنه دعا الشعب كله إلى المقاطعة، بما يحتسب تصعيداً سلبياً، يخرج عن دائرة الحق في التعبير، أو الحق في اعتماد موقف سياسي، والجهر به، إلى ما يقترب من شحن الجمهور، وتأليبه ضد استحقاق ديمقراطي، بدلاً من ترك الآخرين يتخذون المواقف التي يرتأونها، وفق قناعاتهم.
ــ استغرب البيان الإعلان عن تحديد موعد الانتخابات بدون مشاورة، علماً أن الانتخابات تجرى في موعدها، بما يجعلها تخلو من عنصر المفاجأة، ولو كان الأمر يتعلق بانتخابات مبكرة، لجاز الحديث عن ضرورة الاستئناس والمشاورة مع فرقاء اجتماعيين وسياسيين. انسحب نواب "الوفاق" من المجلس الوطني، والآن، فإن جمعيتهم السياسية (يعززها "اللقاء العلمائي" و"تجمع الحوزات") ترفض إجراء الانتخابات، وتمارس نفوذها المعنوي على جمهورها بهذا الاتجاه، فهل المقصود دفع البلاد إلى فراغٍ تمثيلي وتشريعي؟
ــ من الناحية السياسية الداخلية، يلاحظ اعتماد البيان لغة راديكالية، غريبة عن البيئة السياسية، كوصف الحكم في البحرين بأنه "شمولي"، علماً بأن الحكم الشمولي لا يأذن بوجود جمعيات سياسية معارضة تنشط في العلن، مثل جمعية الوفاق وسواها. وقد ترافق ذلك مع تصريحٍ لأمين عام "الوفاق"، علي سليمان، ذكر فيه أن "المجتمع الدولي ينظر للحكم في البحرين على أنه فاقد للشرعية الشعبية". واستخدام تعبير الشرعية الشعبية، بدلاً من الشرعية الدستورية، مثلا، يكشف عن هذه النزعة التصعيدية التي تتجاوز مطالب إصلاحية، وتستبطن ادعاء النطق باسم الشعب. أما "المجتمع الدولي" المقصود في التصريح فليس محدداً من قريب أو بعيد.
ــ في تشخيص الوضع في الإقليم، يختزل البيان المخاطر، ويحصرها ببروز الجماعات التكفيرية، وفي مقدمها تنظيم "داعش"، وإذ يشكل هذا التنظيم بالفعل خطراً داهماً على دول المنطقة، ومجتمعاتها، يستوجب مكافحته واستئصال شأفته، إلا أنه لا يشكل مصدر الخطر الوحيد، بدليل أن الأوضاع لم تكن طيبة أبداً قبل ظهور هذا التنظيم الإرهابي في العراق وفي سورية. فهناك التحدي الإسرائيلي الدائم الذي يغذّي بصلفه مجموعات التطرف، وهناك التمدد الإيراني المقرون بالتدخلات الفظة، وهناك الحكم ذو الصبغة الطائفية في العراق، وهناك حرب الاستئصال والإبادة في سورية التي يشنها النظام على شعبه. اختزال المخاطر كلها بداعش الإرهابي فقط، والإشاحة عن المخاطر الأخرى، هو ما تفعله واشنطن، وما تقول به أطراف المحور الإيراني في المنطقة.
ــ بالعودة إلى الوضع الداخلي في البحرين، لم يكتم بيان جمعيات المعارضة رؤيته للانتخابات المنشودة بأنها "التي تؤدي إلى تداول السلطة، في إطار الملكية الدستورية". ومغزى ذلك أن جمعية الوفاق، والجمعيات القريبة منها، سوف تقيم على موقفها السلبي إلى أمد زمني، سوف يطول على الأرجح. فالتعديلات الدستورية لم تلحظ انتقالاً إلى ملكية دستورية، في أمد قريب، أو ضمن جدولة محددة. والأهم أنه لم يقع توافق وطني عريض حول هذه المسألة التي تشكل نقلة نوعية، بعيدة المدى، للنظام السياسي، ولا يمكن الانتقال إليها، لمجرد أنها تعبر عن رغبة فريق اجتماعي، أو سياسي، أو لأنها تعكس طموحاً مشروعاً لتطوير النظام السياسي، تطويراً "جذرياً". والطموح في جميع الأحوال يتعين ألا يقفز عن خصوصية الواقع وتعقيداته. فليست هناك في المنطقة تجربة يعتد بها لأنظمة تعتمد الملكية الدستورية، ويخلو منها التراث العربي الإسلامي. وبدلا من هذه القفزة، على الرغم من مشروعيتها المبدئية، من الأوفق الأخذ بنهج تدريجي، يزيد صلاحيات رئيس الوزراء ومجلس النواب، كما حدث في المغرب مثلاً. وقد أقرت البحرين تعديلات دستورية، قبل عامين، منحت مزيداً من الصلاحيات لمجلس النواب، ويفترض ألا تكون هذه التعديلات نهاية المطاف، فالحياة لا تتوقف، ومن حق مجلس النواب المقبل، كما القوى السياسية والاجتماعية، المطالبة بتعزيز صلاحيات السلطتين التنفيذية والتشريعية. وهو أمر يختلف عن الحكومة المنتخبة التي تطالب بها "الوفاق" على الفور، وقبل نضوج تجربة التعددية السياسية والحزبية، وقبل تبلور عقد وطني اجتماعي، يقوم حقاً على مبدأ المواطنة، لا على تسييس الدين والمذهب، وتديين السياسة (أقوى الأحزاب في البحرين، وأكثرها نفوذاً حتى الآن، ذات صبغة دينية طائفية، وتنتمي للطائفتين المسلمتين).
انشطار سياسي
ومن شأن الركون إلى حكومة منتخبة، على الرغم من إغراءات الفكرة ووجاهتها المبدئية، أن تقود إلى انشطار سياسي واجتماعي، كما حدث في العراق في العقد الأخير. وإذا كان هناك من يحاجج بأن هذا الانشطار قائم، بصورة ما، على أرض الواقع، فالمطلوب، في حال الأخذ بهذا الرأي، عدم تقنين هذا الانشطار، وتكريسه وتأجيجه باستخدام أدوات عصرية تؤدي إلى مخرجات غير عصرية! وهنا، المطلوب من السلطات، على الدوام، خصوصا في هذه المرحلة، القيام بتدخلات ومبادرات تضمن التجسير بين فئات المجتمع ومكوناته، ومراعاة أكبر قدر من العدالة في التوظيف والخدمات، والتخفيف من الإجراءات الأمنية، وتنمية الروح الوطنية بفتح باب المشاركة، وتحريم الخطاب الطائفي والاستقصائي والاستئثاري. وبعض هذه المطالب هي برسم القوى السياسية، أيضاً، والفاعلين الاجتماعيين وصنّاع الرأي العام، وليست منوطة بالسلطات فحسب.
وفي واحدة من مقارباته للأوضاع الداخلية في مجتمعات الخليج، تحدث الصحافي الباحث الهندي الأميركي، فريد زكريا، على صفحات "نيوزويك"، عن ديمقراطية توافقية، تقوم على الشورى وفتح أبواب الحاكمين أمام الناس، وتستلهم تقاليد قديمة في مبايعة التجار وزعامات القبائل للأسر الحاكمة عشية الاستقلال، باعتبارها شكلاً أولياً وناجحاً، أو مستوى أول للديمقراطية، يمنع الاحتقان، ويوفر تواصلاً دائما بين الحكم والشعب، ويحول دون العسف، ودون نشوء عقلية تآمرية. هذه المقاربة التي يثبت الواقع صحتها، يجب أَلا تحول دون التقدم إلى الأمام، والإفادة من تجارب الأمم والدول في التقدم السياسي، لكن اعتماد هذه الرؤية يصلح أن يكون مفتاحاً لسلم أهلي دائم ووطيد.
من يقرأ بيانات المعارضة البحرينية، ويتبصر بمواقفها، يكاد يتصور أن البلد المقصود ليس البحرين، أو مجتمعاً عربياً خليجياً. فهناك نزوع جارف إلى تغيير شامل، يؤدي فوراً إلى حكومة منتخبة وملكية دستورية!. وهناك خطاب شديد الحدة يشيطن النظام، ويعتمد لغة الخصومة، ومنطق التحدي. وهناك في سلوك المعارضة استهانة بأهمية استثمار المناسبات الوطنية والاجتماعية، لبناء جسور من العلاقات المباشرة (حتى لا يقول المرء العلاقات الإنسانية، مما يتميز به نمط الحياة العامة الخليجية، ويدرأ مشكلاتٍ كثيرة) بين رموز المعارضة وأهل الحكم. وفي المقابل، لا تبدي السلطات دائماً قدراً كافياً من سعة الأفق والاستعداد للاستيعاب وترطيب الأجواء، أو الجرأة الذاتية على تغيير بعض العادات السلطوية، على الرغم من خطوات جيدة، تُحسب لها، منها التعديلات الدستورية، ومنها لجنة بسيوني الدولية التي انتقدت، في جوانب من تقريرها السلطات، وقد نشر تقريرها على أوسع نطاق في الإعلام الرسمي وشبه الرسمي. ومغزى ذلك أن السلطات تكيفت، إلى حد ما، مع رياح الربيع العربي منذ العام 2011، على نحو ما فعلت المغرب والأردن، وما زال مطلوباً منها، كما من دول أخرى، السير على طريق الإصلاح، والإصغاء للمصلحة العليا في توطيد الوحدة الوطنية، والعمل بمقتضاها، ولو أدى ذلك إلى الحد من امتيازات بعضهم، ومن نفوذ من يتطيّرون من أي إصلاح أو مراجعة.
في نقدها موقف المعارضة بمقاطعة الانتخابات، تحدثت وزيرة الاتصال البحرينية، سميرة بن رجب، عن مسعى المعارضة التي تمثلها خصوصا جمعية الوفاق إلى محاصصة طائفية. وإذا كان ذلك صحيحاً، ولعله صحيح، فإن أمام الحكومة واجب اجتراح صيغ موضوعية، أكثر عدلاً لمشاركة سياسية وتمثيلية تتسع للجميع، وتستلهم مبدأ المواطنة، وتقود إلى تحقيق قدر أكبر من الاندماج، وتوقف التظلمات الفئوية بإزالة أسبابها وأجوائها.
فيما تستحق مناسبة الانتخابات المقررة أن ترتفع خلالها أصوات الشخصيات الوطنية المستنيرة في جميع المواقع، وأن تنشط منظمات المجتمع المدني، من أجل الارتقاء بهذه المناسبة، وجعلها استحقاقاً وطنياً يفتح الباب أمام ضمان حقوق الجميع واحترام معتقداتهم، وتطوير الحياة السياسية وإزالة الاحتقانات، وتقديم الاعتبارات الوطنية على أية ولاءات فرعية واستقطابات فئوية، والتمسك، عملاً وقولاً، بالنهج الديمقراطي الانتخابي التي كانت البحرين سباقة، هي والكويت، في اعتماده، وأن يتيح الإعلام الرسمي فرصة الإعراب عن مثل هذه التوجهات، وهو ما يأمله المرء في الأسابيع الخمسة التي تفصل أهل البحرين عن موعد اختيار ممثليهم إلى المجلس الوطني. وبهذه الروحية، قد يمكن ملء الفراغ الذي تخلّفه مقاطعة المقاطعين.
محمود الريماوي كاتب، معلق سياسي، قاص وروائي أردني/ فلسطيني. عمل في الصحافة منذ أواخر الستينيات، في صحف لبنانية وكويتية وأردنية كاتباً ومحرراً ورئيس تحرير. صدرت له 13 مجموعة قصصية وروايتان وكتابا نصوص. كاتب متفرغ ويدير الصحيفة الثقافية الالكترونية " قاب قوسين".
|