السبت ٢٣ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: تشرين الأول ١٦, ٢٠١٤
المصدر: موقع العربي الجديد
عن "الحركة الطلابية" في مصر - خليل العناني
تتعامل الأصولية السلطوية في مصر مع كل من له علاقة بثورة 25 يناير المجيدة بمنطق "أسرى الثورة" الذين يجب تأديبهم، وإعادة تأهيلهم من جديد، لكي يصبحوا خانعين، لا متمردين، وصامتين لا ناشطين. ينطبق ذلك على الجميع، كبيراً أو صغيراً، رجلاً أو سيدة، طالب علم أو أستاذا جامعيا. وقد تجاوز الأمر الانتقام الفردي والمؤسسي من المعارضين إلى القيام بعملية إذلال جماعي ممنهج، هدفها، بالأساس، اجتثاث فكرة التمرد أو الثورة من الذاكرة، وتحويلها إلى كابوس حياتي، يسعى كل فرد للهروب والخلاص منه. ومشاهد المعتقلين من القوى السياسية كافة، سواء في ساحات المحاكم أو السجون، تبدو كاشفة لسلطة مريضة ومغتصِبة، تحاول أن تداري سوءتها في تمثيلية باهتة المعنى والمضمون، تتبادل فيه السلطة الموقع مع الجالسين على مقعد العدالة، فلا تعرف من يصدر الأحكام ممن ينفذها.

حاولت السلطة تكرار مشهد "الأسْر" مع الطلاب، فحوّلت المدارس والجامعات إلى سجون كبيرة، ذات أسوار حديدية، وبوابات إلكترونية، وتفتيش ذاتي مهين، واعتمدت على شركة أمن خاصة، يمتلكها ويديرها جنرالات من الجيش والشرطة، ينوبون عن السلطة في قهر الطلاب وامتهانهم. وقد ذكّرني مشهد الطلاب، وهم يقفون فى "طوابير" لدخول الجامعة، بأول يوم لي في جامعة دورهام البريطانية، قبل سنوات، ولكن، من منظور عكسي تماماً. فلا توجد أسوار ولا رجال أمن أو حراسة، ولا أبواب حديدية، ولا تراتبية اجتماعية أو طبقية بغيضة، سواء بين الأساتذة والطلبة، أو بينهم وبين الموظفين. وأتذكر جيداً أول يوم لي في الجامعة، حين ذهبت للسؤال عن مكتب مشرفيّ على رسالة الدكتوراه، فاستوقفت شخصاً في ثيابٍ متواضعة، يضع دراجته بجوار الحائط، وقد ظننته، بسذاجةٍ مني، أنه عامل الاستقبال أو أحد الموظفين في الجامعة، ولكني فوجئت بأنه المشرف على رسالتي الذي ابتسم في لطف ومودة، واصطحبني إلى مكتبه. بعدها، تغيّرت نظرتي، تماماً، ليس فقط للتعليم الجامعي، وإنما للعلم والحياة بوجه عام.

تذكرت ذلك كله، وأنا أتابع فضائح من يفترض أنهم "أهل علم" و"قادة فكر" من أساتذة الجامعات وانحطاطهم، وانحيازهم الفاضح للنظام السلطوي، رهباً ورغباً. أحدهم يعترف علناً بتشغيل "جواسيس" بين الطلاب لرصد أخبارهم والإبلاغ عنهم، ولم يشعر آخر بالحرج، حين طالب وزارة الداخلية باحتلال الجامعة والسيطرة عليها. ولكنني، أيضاً، تذكرت مواقف أخرى مشرّفة لجيل من الأساتذة فى الثمانينيات والتسعينيات، كاد أن يخسر موقعه ومستقبله، دفاعاً عن حقوق الطلاب، وأهمها الحق في التعبير.

طيلة الأسابيع الماضية، حاولت الأصولية السلطوية إغلاق آخر منافذ "المجال العام" في مصر ممثلاّ فى الجامعات، فأصدرت قوانين ومراسيم إدارية، حوّلت الجامعات إلى "سجون حقيقية"، بدءاً من إشاعة مفهوم "الوشاية" بين الطلاب، مروراً بإعطاء سلطات استثنائية لرؤساء الجامعات، حولتهم "أنصاف آلهة"، تتحكم في مصائر الطلاب وبقية الأساتذة المعارضين لها. وأصبح كل من يمس الذات "السيساوية"، ولو بكلمة، بمثابة مجرم وإرهابي، يستحق العقاب. وهي صلاحيات كان قد استنها الرئيس المؤقت عدلي منصور، سيئ الذْكر والفعل، قبل نحو عام، وأصبحت الآن جزءاً من الواقع الجامعي.

لذا، كان رد فعل الطلاب في جامعات مصرية على محاولة "أسْرهم"، وحبْس حريتهم، قوياً وكاشفاً. فقد كشف، أولاً، فشل محاولات فرض الاستقرار بالقوة داخل الحرم الجامعي وتهافتها، ولو باستقدام شركات أمن خاصة. كما أنه فضح، ثانياً، زيف مدّعى الثورية، ليس فقط من الحركات السياسية، مثل حركة "9 مارس" التي صمتت صمْت "الحملان" على احتلال الجامعات من شركة الأمن الخاصة، وإنما، أيضاً، من مثقفي الاستبداد و"دكاترة السلطان"، كما يسمّيهم الدكتور سيف الدين عبد الفتاح. بيد أن أهم ما كشفته "الحركة الطلابية" أن جذوة التمرد الثوري لا تزال موجودة وحاضرة في العقل الجمعي لشبابٍ كثيرين، على الرغم من محاولات القمع و"الاستئساد" التي تمارسها السلطة تجاه المجال العام. كما أنها ترسخ أن عملية استعادة "المجال العام" ليست صعبة، كما يتخيل بعضهم، وإنما هي بحاجة إلى عمل جماعي منظم، يتجاوز الانتماءات الإيديولوجية والحزبية الضيقة. لذا، حاولت الأذرع الإعلامية للسلطة وصف شباب الحركة الطلابية باعتبارهم "إخوان"، في محاولة لعزلها وتشويهها، كما تفعل دائماً مع كل من يعارض الأصولية السلطوية. وللحق، فإن شباب "الإخوان" جزء أصيل من الحركة الطلابية، وفي قلب "الحراك الطلابي"، ولا يمكن لأحد أن يتجاوز حقهم في التعبير عن رأيهم، ورفض محاولات "عسكرة" الجامعات واغتصابها من الدولة البوليسية.

قطعاً، لا تجب المبالغة فى الاحتفاء بما حققته "الحركة الطلابية" في الأيام الماضية، خصوصاً أن العام الدراسي ما يزال في بدايته. لكن، ما فعلته هذه الحركة يمثل دليلاً قوياً على أن رأسمال الثورة ما يزال موجوداً وحاضراً في حاجة لمن يوظفه بشكل يؤتي ثماره. لذا، على قيادات هذه الحركة أن يضعوا لأنفسهم أهدافاً واضحة ومحددة، يمكن إنجازها، أهمها إطلاق سراح الطلبة المعتقلين، ووقف تدخل الأمن في الجامعة، وتوفير حرية التعبير، وإنهاء التعاقد مع شركة الأمن الخاصة "فالكون" التي فشلت في أداء مهمتها، قبل أن تبدأ.

خليل العناني أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن". 


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
منظمة حقوقية مصرية تنتقد مشروع قانون لفصل الموظفين
مصر: النيابة العامة تحسم مصير «قضية فيرمونت»
تباينات «الإخوان» تتزايد مع قرب زيارة وفد تركي لمصر
الأمن المصري يرفض «ادعاءات» بشأن الاعتداء على مسجونين
السيسي يوجه بدعم المرأة وتسريع «منع زواج الأطفال»
مقالات ذات صلة
البرلمان المصري يناقش اليوم لائحة «الشيوخ» تمهيداً لإقرارها
العمران وجغرافيا الديني والسياسي - مأمون فندي
دلالات التحاق الضباط السابقين بالتنظيمات الإرهابية المصرية - بشير عبدالفتاح
مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان
تحليل: هل تتخلّى تركيا عن "الإخوان المسلمين"؟
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة