كَثُر الكلام في الآونة الاخيرة عن أوجه التشابه بين لبنان ما قبل حرب 1975 واوضاعه اليوم. هل لبنان اليوم في مسار مشابه لمرحلة ما قبل 1975؟ أم أن ازمات تلك المرحلة مختلفة عن الواقع الراهن؟ اسباب اندلاع الحرب في منتصف السبعينات ارتبطت بعوامل عديدة، ابرزها ضعف الدولة لاسيما عندما كان عليها ان تتنافس مع دول سلطوية معسكرة في نظام اقليمي مأزوم بعد حرب 1967. لبنان مجتمع منقسم منذ نشوء الدولة، الا ان انقساماته، الطائفية والسياسية وسواهما، لم تحلْ دون قيام فترات استقرار وازدهار، واطلاق الرئيس فؤاد شهاب مشروع طموح لبناء مؤسسات لدولة عادلة وجامعة، الا انه تعثر لاسباب داخلية متنوعة ولأن النظام السياسي الليبرالي في مجتمع تعددي ومفتوح جعل التدخل الخارجي في شؤون لبنان امرا متاحا.
الدولة في لبنان منذ نشوئها في 1920 كانت امتدادا لواقع سياسي واجتماعي قائم، منذ المتصرفية وقبلها. وخلافا للنموذج السائد في دول المحيط العربي لم ينشأ حكم العسكر في لبنان ولا دولة استبدادية يتحكم بها القائد الملهم والحزب الواحد. ففي لبنان دولة تعكس طبيعة المجتمع وغالبا ما تكون الكلمة الفصل للمجتمع، بانقساماته وتوازناته، على حساب الدولة لا سيما في الازمات الحادة، كما في 1958 ولاحقا بين العامين 1969 و 1975.
ففي حين تأثر لبنان بالحرب الباردة وبالمدّ الناصري في الخمسينات، شأنه في ذلك شأن معظم الدول العربية، خصوصا بعد الوحدة المتعثرة بين مصر وسوريا في 1958، الا ان الوضع كان مغايرا بعد حرب 1967. وبين النكبة والنكسة اصبحت فلسطين كلها تحت الاحتلال ولم يبقَ في المنطقة سوى لبنان متَنَفسا للعمل السياسي الحر، وسرعان ما تحول ساحة مفتوحة للعمل الفدائي وبات عمليا الجبهة العسكرية الوحيدة مع اسرائيل بعد حرب 1973.
تقاطعت طموحات جيل النكسة مع مصالح الدول والجماعات المجيشة لاحداث التغيير الجذري في زمن صعود اليسار الراديكالي وبلوغ الايديولوجيا حدها الاقصى. انه زمن الاحلام والاوهام والثورة في الاتجاهات كافة. هذا الصخب الفكري والسياسي، وفي ما بعد العسكري، كانت ساحته بيروت والجنوب والمدارس والجامعات والصحف والاحزاب، وتباينت مواقف اللبنانيين من الثورة باشكالها المتنوعة. الطرف الاضعف في المواجهة كانت الدولة التي انكسرت امام الثورة في انطلاقتها المندفعة بعد هزيمة 1967. هكذا تعسكر العمل السياسي في لبنان وانشطرت البلاد بين مؤيد ومعارض للوجود الفلسطيني المسلح. كما ان الثورة الفلسطينية كانت في حالة صدام لا مع العدوفحسب بل مع مناضلي الصف الواحد. فالانقسامات بين الانظمة العربية من جهة وبينها وبين منظمة التحرير من جهة اخرى تفاقمت، خصوصا بعد وفاة عبد الناصر في 1970، والذي كان باستطاعته احتواء بعض ارتداداتها.
في لبنان ثمة من راهن على "الحل العسكري" في حرب السنتين (1975-1976)، اي إلحاق الهزيمة العسكرية بالطرف الآخر وقلب التوازنات الداخلية رأسا على عقب. وهذا يعني واقعيا سيطرة المنظمات الفلسطينية على "الساحة" اللبنانية وفتح الطريق امام المواجهة العسكرية مع سوريا. وهذا ما حصل بالفعل في 1976 بغطاء اقليمي ودولي. بايجاز، الحرب في لبنان كانت حتمية منذ بدء العدّ العكسي في اوآخر الستينات مع تحول لبنان القاعدة الاساسية والوحيدة للنزاع العربي- الاسرائيلي في بعديه السياسي والعسكري.
اما اليوم فلبنان لم يعد ساحة حرب وان كانت انقساماته الداخلية ازدادت حدة. كما ان النزاع العربي- الاسرائيلي ساحته فلسطين، لابل تحول الى نزاع فلسطيني- اسرائيلي، وفلسطيني داخلي في بعض جوانبه. ومع بدء الربيع العربي، خسر لبنان "ميزاته التفاضلية" كساحة وحيدة لنزاعات المنطقة وتوزعت الساحات على دول المنطقة، وبات لكل دولة "اختصاصها" في نزاعات تبدأبالعصبيات الطائفية والمذهبية والعشائرية لتصل الى الحرب الدولية على الارهاب. كما انه ما من طرف فاعل في لبنان اليوم يسعى الى استحضار الفتنة او استعادة بعض وظائف حروب السنوات الماضية. وخلافا لمرحلة الحرب حيث كان لاطراف الخارج دور حاسم في مسار الازمة، فإن اي مواجهة عسكرية داخلية لن يَسلَم منها احد ويستحيل توظيفها لقلب موازين القوى. كما ان الخارج، القريب والبعيد، لم يعد يشغله الوضع اللبناني في زمن التحولات الكبرى التي تشهدها المنطقة. ففي سوريا والعراق حروب متعددة الاسباب والاهداف، وفي جوارهما دول لها نفوذ مؤثر في لبنان، الا ان لكل منها همومها الضاغطة، وهي اكثر اهمية من الوضع اللبناني. اما الدول الكبرى، وفي مقدمها الولايات المتحدة، فليس لها مصالح حيوية تستوجب حمايتها في لبنان. ولا مبالغة في القول أنه نادرا ما استحوذ لبنان بحدِّ ذاته اهتمامات الدول الكبرى بل كان دائما يجذب الاهتمام بسبب دوره كساحة للنزاعات الاقليمية.
الواقع ان تراجع دور لبنان "الساحة" جنّب البلاد الانفجار، اسوة ببلدان الجوار. ففي لبنان بيئات حاضنة لكل انواع نزاعات المنطقة وفيه ايضا بيئات رافضة، ودولة مغلوب على أمرها، الا ان دورها يحتاجه الجميع وان لاسباب متناقضة. حماية لبنان اليوم لا تنبع من قواه الذاتية، بل انه استقرار الضرورة بعد ان انتفت الحاجة الى وظائف العنف وبات الانهيار مصدر خطر على الجميع: طوائف ومذاهب وقوى سياسية. الدولة في لبنان مكشوفة في ضعفها، خلافا لدولة ما قبل الحرب التي حاربها البعض متوهما انها تشبه مثيلاتها العربية. لذا فإن بقاء دورها بالحد الادنى يظل اكثر جدوى لأهل الحل والربط في الداخل والخارج من الغائه. هكذا يقدم لبنان، مرة اخرى، حالة خاصة ينفرد بها في زمني السلم والحرب.
|