ذكرنا، في مقال سابق، أنّ لا أمل بتحقيق الاعتدال والوسطية من دون عقل وتنوير. وبالمثل، نقول أيضاً إنّ لا أمل بممارسة سياسية رشيدة من دون فكر سياسي حديث.
والفكر السياسي لا يتمثّل في القيم التي يتطلّع إليها الإنسان، سواء من منطلق قناعات عقلية، أو انخراط في عقيدة دينية أو منظومة أخلاقية، وإنما يعني تنزيل القيم في الواقع التاريخي والاجتماعي المتغيّر، والاستفادة من دروس الماضي وتجارب الآخرين، والتمييز بين الممكن والمستحيل. فالفكر الإنساني قائم على التحليل والافتراض والاستنباط والمراجعة، يعيد بناء نفسه في كلّ مرحلة، ويتواصل مع ماضيه تواصلاً نقديّاً، ويفتح المجال للتوافق بين البشر بالحوار والاستدلال.
وتعاني الثقافة العربية السائدة من مرضين مزمنين ومترابطين، أوّلهما الهوس بالسياسة. لو افترضنا أنّنا نطرح اليوم الإعلان الآتي: تعلن جائزة نوبل عن تقبّل ترشّحات المؤسسات العربية لجائزة أفضل الاكتشافات في الفيزياء والكيمياء والطب، أراهن أننا لن نجد مؤسسة لها أعمال تثق بها وتقدّر أنها صالحة للدخول في منافسة عالمية في المجالات المطلوبة. لنفترض الآن أننا نطرح في اليوم التالي الإعلان الآتي: من يريد أن يصبح زعيماً للبلاد؟ بالتأكيد، سنجد الآلاف من البشر والطوائف والملل تتقدّم بكلّ جديّة وحزم لخوض هذه المنافسة.
طبعا، ليس محلّ الاعتراض أن يكون من حقّ من يريد أن يتطلّع إلى الزعامة، فهذا حقّ طبيعي ينبغي أن يكون مكفولاً لكلّ مواطن، لكن المشكلة، لماذا لا نجد كثيرين يرغبون في أن يكونوا فيزيائيين؟ أو أن يتسابقوا لاكتشاف لقاح لوباء كورونا أو أيبولا؟ بل يمكن أن نتصوّر للإعلان الاستفزازي الذي تخيّلناه «تنويعات» تنتهي إلى النتيجة ذاتها، مثل أن نصوغه بالشكل التالي: ستمنح جائزة نوبل هذه السنة، وبصفة استثنائية، لأفضل عمل حول تاريخ الطب والعلوم في العصر الوسيط. حينئذ سترتفع الفرص العربية بالفوز بالجائزة، لكن مثل هذا الإعلان مستحيل، لأنّ البشرية لم تعد في حاجة إلى ما تطوّر في العصر الوسيط، هي في حاجة الى معالجة مشاكل اليوم.
أما المرض الثاني فهو أنّنا، على رغم الهوس المفرط بالسياسة، نمارسها من دون فكر، ولا نتقن منها إلاّ فنون الجدل والشعارات، أو العنف والمخادعة، وفي أحسن الحالات، المواقف المبنية على المصلحة المباشرة الضيقة أو الانطباع الذاتي السطحي. وأزمة العلاقة بين الدين والسياسة في مجتمعاتنا ليست إلاّ نتيجة طبيعية لضمور الفكر السياسي، إذ إنها انعكاس للخلط السائد بين القيم والمبادئ عامة، والنشاط الفكري. فكلّ الأديان تتضمّن قيماً لها تبعات على السلوك الفردي والجماعي لمعتنقيها، بالتالي، تتضمن كلّ الأديان، في مستوى القيم، أبعاداً سياسية. لكن لا يوجد دين يقدّم فكراً سياسياً، في شكل نظريات وحلول، لأنّ هذا الجانب متغيّر بطبعه بحسب الأزمنة والأمكنة، متغيّر في ما يطرحه من حلول، وما يطرحه من أسئلة أيضاً يفقد بعضها قيمته ويستبدل بأخرى، ويرتبط بتجارب البشر ومكتسباتهم وخيباتهم، فضلاً عن تغيرّ طموحاتهم وتضارب مصالحهم.
ولا شكّ أنّ معاينة سريعة للمجادلات السياسية الحالية تؤكد الانفصام التام بين الفكر السياسي الكوني ومشاغل السياسة في العالم العربي، فلن يكون من المبالغة إذا قلنا إنّ الأخيرة ما زالت إشكالياتها النظرية الكبرى مرتبطة بسؤال طرح قبل أربعة عشر قرناً في سقيفة بني ساعدة، حول الأحقية بالخلافة، وأن علاقتها بالفكر السياسي الحديث لا تختلف كثيراً عن علاقة مقالات الملل والنحل القديمة بالفلسفة السياسية الأرسطية، وقد كانت علاقة مفقودة تقريباً، إذ لم تستفد تلك الفرق شيئاً يذكر من بواكير فكرة المواطنة كما صاغها المعلّم الأول في كتابه «السياسة». ولم يعرّب هذا الكتاب إلاّ في العصر الحديث، في سياق استفاقة نهضوية أدركت ضرورة تجديد مقولات الخطاب السياسي، وبدأ معها، بواسطة الترجمة والتبسيط، نشر أفكار الوطنية والمواطنة والديموقراطية والحكم المدني والدستور وفصل السلطات والحريات الأساسية. وما أن بدأت هذه الأفكار بالانتشار، وبدأ العرب بالالتحام بالأفق الكوني للفكر السياسي، حتى نشأت شخصية غير محدّدة المعالم ولا الاختصاص، تطلق على نفسها لقب «الداعية»، لا هي شخصية الفقيه التقليدي الذي يحترم نفسه ولا يخوض في ما ليس من اختصاصه، ولا هي شخصية المفكّر الحديث المختصّ في مرجعيات هذه المفاهيم وسياقاتها وتطوراتها. جاء الداعية ليستولي بصلف على هذه الكلمات ويزعم أنّها موجودة منذ القديم تحت عباءته، وحوّل مواعظه إلى محاضرات في الفكر السياسي بطريقته الخاصة، وكان من بركاته أنّه فهم «الحكم المدني» من دون أن يعرف شيئاً عن لوك، و «فصل السلطات» من دون أن يقرأ حرفاً لمونتسكيو، و «المساواة المواطنية» من دون أن يتابع التاريخ الطويل للمفهوم من أرسطو إلى هابرماس، و «الحرية» من دون أن يتابع الجدل حولها من هوبز إلى راولس.
هكذا تحوّلنا بسرعة، من مسار الارتباط بالكوني، ولم يتجاوز الجيلين، جيل الطهطاوي (معرّب «روح الشرائع» لمونتسكيو) وجيل أحمد لطفي السيد (معرّب «السياسة» لأرسطو)، إلى حركة الاستيلاء على المفاهيم الحديثة وإعادة استعمالها بطريقة مبتذلة، مثل كثير من البضائع المقلّدة التي تغزو أسواقنا، فترى نظرية ولاية الفقيه مرصوفة مع الحكم المدني، والخلافة مع الدستور وفصل السلطات، مثلما نرى علب السجائر الأميركية والمسابح الصينية متجاورة لدى باعة البضائع المهرّبة. واختلاط المفاهيم بهذه الطريقة الفجّة قطع الطريق أمام قيام فكر سياسي حديث ومعقلن، وفتح الباب على مصراعيه للتهويم والفهلوة الفكرية.
فخاصية الإنسان التفكير مع الممارسة، بما يجعله قادراً، دون بقية الكائنات، على تطوير نفسه ومحيطه، أمّا الممارسة من دون فكر، فتظلّ مراوحة في المكان ذاته، لا سيما إذا ارتبطت بهوس يقطع بدوره الطريق أمام مشاغل إنسانية أخرى لا تقلّ أهمية وضرورة. وفي ظلّ هذه الحلقة المفرغة، لا تعدو الممارسة السياسية أن تكون لعبة مصالح ضيقة وآنيّة، والفكر السياسي لغواً وتضليلاً. |