وُلد الربيع العربي بسرعة في أوائل العام 2011. لم يكن أحدٌ يتوقع قيامه، كما لم يكن وارداً في عُرف شعوب هذه المنطقة، المُجَهّلة، ثقافة الثورة، أو الانتفاضة، أو حتى رفع الصوت! كانت الأمور تجري جيداً، لكل الأنظمة السياسية في المنطقة. هذا بشار الأسد ووجوده في السلطة الذي يدلّل على نظرية "الجمهورية الملكية" التي تعتبر التجربة السورية فيها الثانية في العالم! وهذا حسني مبارك وآماله العريضة بتولية ابنه جمال ليخلفه، وليفعل كما فعل من قبله في سورية. وكذا معمر القذافي، وهذا زين العابدين بن علي يتربّع على عرش دولة أمنية ينخر الفساد، الذي خلّفه هو وعائلته، في مفاصلها، ومثله فعل علي عبد الله صالح. الأمور كانت جداً ممتازة لهم، لم يتوقعوا، حتى في أسوأ أحلامهم كابوسيةً، أن تقوم هذه الشعوب رافعةً صوتها ومستخفّةً بكل ما قاموا به طوال عقودٍ سبقت، من إذلالٍ للمواطن العربي البسيط، ومن سرقة خيراته ومقدراته. الوضع في عموم الوطن العربي، قبل الربيع، كان بالفعل مأساوياً: قوانين الطوارئ تعمّ الأرجاء، الاعتقالات التعسفية أصبحت مظهراً معتاداً، والفساد المستشري أصبح لا يطاق، هجرة العقول نحو الغرب، مكمن الآمال والأحلام لدى كثيرين، أصبح عرفاً سائداً لا بدّ منه. وهكذا قامت الثورات من دون تخطيط مسبقٍ ولا إعداد، كما حال كل الثورات التاريخية التي تتغنى بها الأمم المتحضّرة في هذا العصر. بدأت كرة الثلج بالازدياد شيئاً فشيئاً، وأصبح المواطن العربي، يوماً بعد آخر، يزداد وعياً بحقوقه المسلوبة، ويتعرّف شيئاً فشيئاً على الأفكار والانتماءات، وتصبح للمواطن البسيط بصمة واضحة ورأيٌ متفرّد، بعدما كانت أقصى طاقاته العقلية تنحصر في تأمين القوت لعياله. الأمور سارت كما يجب في تونس، ولم تنجح قوى الثورة المضادة هناك. أما في مصر، فقد شهد العرب أكبر مثال على الثورة المضادة التي أعادت كل شيء إلى سابق عهده قبل الثورة، وربما إلى أسوأ من ذلك، في هذا البلد العربي الذي يعدّ أكبر الدول العربية سكانياً وتأثيراً على محيطه هذه الأيام، وربما كان تورط الولايات المتحدة في دعم الانقلاب والثورة المضادة ضرورياً لها، كون مصر تمثّل رقماً صعباً في السياسة الأميركية، وامتلاك شعبها للسلطة يعني، ببساطة، خروج الأمور عن سيطرة أميركا وقرارها. أما في ليبيا، فلقد جوبه الحسم العسكري، الذي أسفر عن سقوط نظام القذافي، بثورة عسكرية مضادة، نشهد فصولها، اليوم، وتتمثّل واضحةً للعيان بهذه الفوضى العسكرية التي يعيشها البلد الذي يحوي مخزوناً نفطياً هائلاً، ويشكل قوة إقليمية لا بأس بها. والفوضى العسكرية تتمثّل لنا اليوم كذلك في اليمن، والذي أُنهيت الثورة فيه باتفاقيةٍ جرى فرضها إقليمياً، لأهمية هذه الدولة، لجوارها الخليجي بشكلٍ خاص، ليتبدى لنا مدى تورط إيران في اليمن، بعدما شاهدنا جميعاً الثورة المضادة التي قادها الحوثي وميليشياته الطائفية، للسيطرة على زمام الأمور في البلاد. أما سورية، الدولة الخامسة والأخيرة في الربيع العربي، فما زالت تعيش فصول حرب مريرة وفوضى عصابات وأمراء حرب منذ أربع سنوات، جعلتها البلد الأكثر خطورة في العالم، والتي ما زالت وحيدةً ضمن معادلة الربيع العربي من دون حسم لأي طرفٍ من الأطراف. ويطلّ علينا مشروع إيران والوليّ الفقيه الذي أصبحت دولته تطلّ على ساحل المتوسط! (كما عبّر عن ذلك صراحةً مستشار المرشد الأعلى للثورة الإيرانية)، المشروع الإيراني، الذي عملت عليه إيران منذ أكثر من 35 عاماً، والذي نتج عنه هذا المدّ الإيراني الذي اكتسح المنطقة، والذي اتّضح واتّضحت أهدافه، بشدّة، بعد حرب العراق، 2003، المشروع الذي كان يسعى، فعلياً، لتكوين امبراطورية فارس التاريخية. جاء الربيع العربي هزّة كبرى للمشروع الإيراني، تمثّلت بقوة في سورية، ومن ثم لبنان والعراق ثم اليمن، وفي الحقيقة، إن خسارة سورية من المعادلة الإيرانية مجرد بداية لخسارة العراق ولبنان، (وهذا ما لاحظناه أخيراً من امتداد أوار الصراع من سورية نحو جارتيها).
أهم ما جنيناه من الربيع العربي أن يُسمّى كل شيءٍ باسمه، وأن يُعرف العدو من الصديق، وأن تتّضح الصورة التي تشكّل رغبات القوى الإقليمية والدولية وأطماعها في بلادنا للجميع. وقد شكّل هذا الربيع وعياً ثقافياً ومخزوناً هائلاً من الخبرة التي بُثّت في أبناء هذه الأوطان والأقطار وشبابها خصوصاً، والتي تشكل طاقةً كامنةً ستستعر يوماً ما من دون سابق إنذار مرةً أخرى في وجه الطغاة، وفي وجه كل مَن يقف في سبيل حرية الشعوب.
|