لا شك في أن الثورة أنقذت اليسار التونسي، كما فعلت مع الإسلاميين. بمعنى أن ما حدث بين 17 ديسمبر/كانون الأول و14 يناير/كانون الثاني 2011 غيّر المشهد، وطرح على اليساريين أجندة مختلفة، ودفعهم نحو مراجعة دورهم في البلاد، وجعلهم يعتقدون أن اليسار لم يمت، وأنهم "البديل الأفضل والأقوى لاستلام السلطة وإدارة شؤون الدولة". وكان من أولى ثمرات هذا التحول الكبير تأسيس الجبهة الشعبية، وهي صيغة ائتلافية اشتغل عليها كثيراً شكري بلعيد قبل اغتياله، لأن الخلافات كانت قبل الثورة عميقة بين حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد وحزب العمال الشيوعي التونسي الذي يقوده حمى الهمامي، وهما التنظيمان المصنفان في اليسار الراديكالي.
تعتبر الجبهة الشعبية رقماً مهماً في المشهد السياسي التونسي الراهن، بسبب عوامل متعددة، منها انضمام معظم القوميين، بتياراتهم البعثية والناصرية، وارتفاع صوتها الاحتجاجي وسقف مطالبها. كما كان بلعيد زعيماً متميزاً في خطاباته وديناميكيته، مما وسّع من قاعدتها وأنصارها. ولعل ذلك ما جعله مستهدفا ممن خططوا لاغتياله ونفذوه. وأعطى الاغتيال مزيداً من التوهج للجبهة. لكنه وجّه، في الآن نفسه، ضربةً موجعة جداً لهذا التحالف السياسي الصعب. وبسبب هذه العوامل وغيرها، ارتفعت أسهم الجبهة في استطلاعات الرأي العام، مما جعلها تحتل أحيانا المرتبة الثالثة، بعد حزبي النهضة ونداء تونس.
في المقابل، توالت، أخيراً، أحداث أربكت الأجواء الداخلية للجبهة، منها انسحاب بعض مكوناتها من التحالف، بحثاً عن الاستقلالية والتميز، أو بسبب اختلافاتٍ تتعلق بتقييم المرحلة، أو بسبب رئاسة القوائم الانتخابية. وأن الجبهة لم تتمكن من جمع عشر تزكيات من بين أعضاء المجلس الوطني التأسيسي، لضمان ترشح حمه الهمامي للانتخابات الرئاسية. فقد رفض حزب المسار ذلك، بحجة الامتناع عن تزكية كل المرشحين. وحزب المسار يساري انحدر من التطورات التي أدت إلى أن يحل الحزب الشيوعي التونسي نفسه، بل إن عضوا في المجلس التأسيسي ينتمي إلى حزب العمال الذي يقوده الهمامي رفض تزكية رفيقه لخلافات داخلية، مما دفع الهمامي إلى قبول تزكية نائب من حركة النهضة له خلافات حالية مع قيادتها. وقد فجرت هذه التزكية أزمة حادة بين الرفاق، ودفعت قادة "الوطنيين الديمقراطيين" إلى رفض هذه التزكية، فخلافهم مع الإسلاميين دفعهم إلى المطالبة بعدم قبول هذه المساعدة السياسية من خصمهم الرئيسي، ولو أدى ذلك إلى عدم مشاركة الجبهة في الانتخابات الرئاسية.
ولولا التزامهم وصية شكري بلعيد، وحرصهم على وحدة الجبهة في هذا الظرف الدقيق، لكانت النتيجة فك الارتباط مع حمه الهمامي وحزبه. وقد سبق لهم أن هاجموه بشدة، وقاطعوه سنوات، عندما أسس مع الإسلاميين وغيرهم "جبهة 18 أكتوبر" في السنوات الأخيرة من حكم الرئيس زين العابدين بن علي، ووصفوا يومها تلك المبادرة بأنها "خيانة" للحركة اليسارية والتقدمية. اليوم، هدد قادة الجبهة بأنهم لن يعترفوا بنتائج الانتخابات، إذا لم تتوافق مع تقديراتهم الذاتية لحجمهم، ووفق ما عكسته بعض استطلاعات الرأي، وذلك استنادا على أزمة التزكيات المغشوشة للمرشحين. وهو موقفٌ شبيه بما هددت به حركة النهضة في انتخابات 2011، إضافة إلى أنه موقف خطير، فهو ليس فقط يفترض تزوير النتائج قبل إجراء الانتخابات نفسها، وإنما، أيضاً، يضع سقفا استباقياً، وافتراضيا لحجم الجبهة.
لا تحتمل تونس أي تشكيك مسبق في مصداقية الانتخابات، فذلك من شأنه أن يفتح الباب أمام المجهول. والاعتراف بالنتائج وتسليم الجميع بها شرط أساسي من شروط حماية المسار الانتقالي، ولا يجوز لأي طرف سياسي، مهما كان حجمه أو نظرته لذاته، أن يقدم مصلحته على مصلحة تونس الديمقراطية.
صلاح الدين الجورشي كاتب من تونس، رئيس تحرير صحيفة "الرأي العام" الإلكترونية، وخبير في الحركات الإسلامية وقضايا المجتمع المدني. منسق لجنة البحوث والدراسات بالشبكة العربية للمنظمات غير الحكومية للتنمية. نائب أول سابق لرئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.
|