أبعد من الجدل حول القوانين التنظيمية والإجرائية ذات الصلة بانتخابات البلديات في المغرب، أنها تمتزج الرأي إزاء مآل حكم الإسلاميين، من خلال تجربة «العدالة والتنمية» في قيادة الحكومة الحالية، فهي أشبه بطبعة مصغرة، وإن ركزت على القضايا المرتبطة بالتدبير المحلي في المدن والمحافظات والجهات، على عكس الاشتراعيات التي تنبثق منها الحكومات والمعارضات.
وبينما ساد اعتقاد بأن التنظيم الجهوي الذي يمنح صلاحيات واسعة للمنتخبين المحليين، يقترب إلى الحكم الذاتي الذي يرفع الأعباء عن السلطة المركزية، جاءت مشاريع القوانين أقل من الطموح. وعلى رغم رجاحة الاعتقاد أن لا بديل من هذا الخيار الذي سلكته دول غربية في التخلي عن مركزية السلطة والإفساح في المجال أمام التدبير الذاتي، لا تبدو المعطيات الراهنة في وارد الانتقال كلياً إلى المجال الجهوي، وإنما الذهاب نحوه بصيغ تدريجية. إلا أن تصعيد وتيرة شد الحبال بين المعارضة والغالبية حول مدونة الانتخابات يشي بأن الأمر يتجاوز المحليات نحو الاشتراعيات، كونها تأتي مباشرة في أفق نهايته عام 2016.
يخامر الناخبين شعور بأن انتخابات البلديات هذ المرة ستكون أكثر ضراوة، أقله أنها تأتي في ظرفية مغايرة لما حدث في الاقتراع الاشتراعي السابق لأوانه في تشرين الثاني (نوفمبر) 2011. هدأت رياح الربيع العربي وفق ما آلت إليه تجارب اندفاعية بعضها فقد بوصلة التمييز، وجرب المغاربة قرابة ثلاث سنوات من حكم الإسلاميين، ولم يحدث ما يضيف إلى واقع الاستقرار جرعات أمل وتغيير في معالجة ركام التحديات. ذهب العاهل المغربي الملك محمد السادس أبعد في رسم معالم صورة حالكة حول استمرار تدهور الأوضاع الاجتماعية وتزايد حدة الفوارق بين الفئات والمجالات، في غياب توزيع عادل للثروة.
لم يكن معولاً على تجربة قصيرة في نفوذها الزمني إصلاح عيوب بنيات موغلة في غابة الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية بمجرد استلام الإسلاميين مقاليد الحكم، لكن الطموحات تبقى عنوان التجارب السياسية الواعدة. في حال أخفقت في إحداث التغيير، فلا أقل من حفظ شعاع الثقة والأمل، لذلك فالمنافسات الانتخابية ستكون محكاً جديداً لاختبار ميول الناخبين، إن لجهة منح فرقاء الغالبية أو بعضها فرصة جديدة، أو لناحية رفع سيف التصويت الإنذاري والعقابي. ومع أن الانتخابات المحلية لا ترتدي طابعاً سياسياً مباشراً، فإن اللاعبين في حلبة الميدان هم أنفسهم الشركاء في العملية السياسية على الواجهتين، الغالبية والمعارضة، بخاصة في مواجهة المشاكل اليومية للمواطنين.
في مقابل هذا التحدي، تميل الكفة حزبياً إلى محاولات التخلص من المسؤولية. فالمؤشرات المتزايدة حول تبادل الاتهامات إزاء الظروف الملائمة لتأمين نزاهة وشفافية الانتخابات القادمة ليست مشجعة. وإذا كان مقبولاً من بعض فصائل المعارضة أن تحذر من مخاطر انزلاق محتمل، فإن مسؤوليات الحكومة أن تواجه هذه المخاوف بصرامة على مستوى نزع بذور التشكيك. ومن غير المفهوم أن تنساق بعض أطراف الغالبية إلى الاتجاه ذاته، كونها تملك صلاحيات وآليات قانونية وإجرائية كفيلة بمعاودة ترسيخ الثقة في سلامة الانتخابات. لكن الأخطر أن كل فريق يرغب في تبرئة ذمته حيال أي نكسة محتملة، بصيغة أخرى فالمسألة تبدو أقرب إلى سياسة الذود عن المواقع بالنسبة الى الغالبية الحكومية والرغبة في احتلالها مجدداً من طرف المعارضة. مع أن إقرار الحسم بيد الناخبين المؤهلين، دون غيرهم لترجيح هذه الكفة أو تلك.
بديهي في حرب المواقع أن تندلع بأقصى ما يمكن من الحدة والشراسة، غير أن طرح البدائل يجمل صراع الأفكار والمبادرات والاقتراحات. وإذا كانت المسألة ترتبط بإطلاق صفارة المنافسات في إطارها السياسي والقانوني، فإن إجراء تمارين تسخينية له حدوده ومجالاته المحكومة بسقف الواقعية. فالتجربة المغربية مهما سجلت عليها من مؤاخذات تظل أقرب إلى ترك العملية السياسية تستنفذ مداها، كي لا توصم بالتراجع أو الانقلاب على شرعية صناديق الاقتراع. في أقل تقدير أن هكذا أسلوب غير وارد البتة، وبإمكانه أن يقع بتأثير مباشر من سلطة الناخبين وليس فرملة التجربة.
هل الوضع الحالي الذي تجتازه المعارضة يؤهلها لأن تشكل بديلاً لحكم الإسلاميين؟ لا يطرح السؤال بطريقة مباشرة، لكنه ليس بعيداً عن السيناريوات التي ترافق العملية السياسية. فالتطور الإيجابي الوحيد تقريباً يكمن في احتمال أن يخوض الحزبان المعارضان الاستقلال والاتحاد الاشتراكي منافسات الاستحقاقات المقبلة بمرشحين مشتركين. فعلا ذلك في تجربة سابقة مهدت لبدء خطة التناوب الوفاقي. غير أن الشروط لا تتشابه في كل المعطيات. وبات من الصعب زحزحة إسلاميي «العدالة والتنمية» إلى مراتب متدنية بسهولة. فقط في إمكان دخول لاعب جديد أن يقلب المعادلة، لكن هل الظروف تساعد في أن تصبح جماعة العدل والإحسان حزباً سياسياً يشارك في الاستحقاقات. |