"الحق على الدولة!" شماعة يعلق عليها المواطن العادي ومعظم الباحثين في الشأن العام وخبراء الاقتصاد وممتهنو السياسة أي مسألة، كبرت أم صغرت. من الثابت أن تقصير هذه "الدولة" فادح، لكن الثابت أيضاً أن تحميلها المسؤولية كاملة عبر وضعها في مرتبة الجرم المنفصل عن المجتمع، المنتظر إصلاحاً تلقائياً، يعد أقصى درجات التخلي، خصوصاً من قبل الذين لا يرون أنهم، بصفتهم مواطنين، يعتبرون جزءاً من هذه الدولة، ويتحملون تالياً مسؤولية صلاحها أو ضلالها. إن للمراوحة ثمنا، وللإصلاح أثمانا.
الأرقام تكذب... غطاس الضرائب!
بحسب البيانات المنشورة من قبل وزارة المال، يقل مجمل الإيرادات السنوية للضريبة على الأجور عن 400 مليون دولار، تمثل واحداً في المئة أو أقل من الدخل القومي وثلاثة بالمئة من مجمل الأجور. وللمقارنة، فإن هذا الرقم يقل بمئة مليون دولار عما تنفقه الدولة على المواطنين من دواء واستشفاء.
أمَّا الإيرادات السنوية للضريبة على أرباح الشركات، فإنها بالكاد ترقى إلى 650 مليون دولار، تساهم المصارف بنسبة الثلث منها، أي أن معدل الضريبة المباشرة على الشركات (باستثناء المصارف) لا تتعدى 700 دولار شهرياً لكل شركة كمعدل وسطي.
ويقدر الخبراء أن مجمل الإيرادات للضريبة المباشرة (من دون احتساب الضريبة على فائدة الودائع) يجب أن تساوي ثلاثة مليارات دولار، في حين أنها لا تتعدى فعلياً المليار الواحد، أي أن التهرب الضريبي يقدر بملياري دولار. أما بالنسبة للضريبة غير المباشرة الرئيسية، أي على القيمة المضافة، فإن إيراداتها تساوي 2,2 ملياري دولار، أو بمعدل وسطي يقدر بنحو 45 دولاراً شهرياً للفرد.
تبين هذه الأرقام أن الضرائب المستوفاة متدنية للغاية وإن لم يكن توزيعها عادلاً بالضرورة. لكن ماذا يقول لسان حال العامة والنخب؟ يقولون إن النسب الضريبية عالية، وتفوق طاقة الأفراد والمؤسسات، ويدّعون ان لا شيء إطلاقاً يعمل في الدولة. والحقيقة أن الذين يسددون الضرائب هم في الغالب أولئك الذين لا يجدون سبيلاً للتهرب منها، إضافة الى حفنة من المواطنين والشركات، الصالحين والصالحات. أما الباقون، فيستفيدون من الدولة مجاناً، على حساب غيرهم. وأما الدولة، المقصرة في مجالات شتى، فتقدم الكثير للمواطنين في التربية والصحة وفي إدارات متعددة (ليس كلها)، وفي السلك الخارجي، وفي الأمن، وفي الأحوال الشخصية، وفي بعض المحاكم، وفي دعم فوائد القروض السكنية ولآلاف من المؤسسات، وفي كلفة الكهرباء والمياه (وإن كانت هذه الخدمة متقطعة في أحسن الأحوال)، وفي إنشاء وصيانة البنية التحتية والطرق (والجزء الصالح منها هو الطاغي)، وفي تأمين النقل البحري والجوي، وفي غيرها، وذلك بكلفة أكبر بكثير مما تستوفيه من المستفدون أي أن دولتنا تتبع سياسة رعائية بامتياز، قل نظيرها في الدول التي تعتمد نظاماً اقتصادياً حراً، وهي في بعض الحالات تشبه الدول الإشتراكية.
فإذا نظرنا الى القطاع الصحي مثلاً، نجد أن المواطن مغطى من قبل وزارة الصحة في معظم الحالات المرضية إذا لم يكن مدرجاً في لائحة مشتركي الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي أو أي من المؤسسات الضامنة الخاصة أو العامة. لهذه السياسة الرعائية كلفة عالية، إذ بلغ مجمل إنفاق الدولة في سنة 2013 حوالى 14 مليار دولار (ما يعادل 16,500 دولار لكل أسرة معدلاً وسطياً سنوياً) في حين أن إيرادها بلغ 9,4 مليارات دولار، ما أدى إلى عجز يناهز 4,5 مليارات دولار. من يدفع ثمن هذا العجز؟ إنهم المواطنون، الممثلون بمكلفهم، أي الدولة، الذين يقترضون لتمويل العجز الناتج عن هذا الريع، ويؤجلون تسديد أصل المديونية، عند كل عملية إعادة تمويل القروض والسندات السيادية، مما يرتب عليهم كلفة إضافية بالغة.
* * *
لا شك في أن المحاصصة بين الأفرقاء في السياسة، والغنائم المادية الناتجة عنها، ومثلهما الهدر والفساد، وراء قسط وافر من تخلف الدولة عن قيامها بواجباتها. ولا شك في أن المجتمع برمته، بأقسامه الطائفية والطبقية والمناطقية والمهنية، هو شريك مؤسس في طبخ قالب الجبنة هذا. هذا هو العقد الاقتصادي الاجتماعي الوطني الفعلي، ولسنا إلا مستفيدين فيه، وقانعين أيضاً! وإلا، ما تفسير عدم وجود حزب أو نقابة أو هيئة اقتصادية أو منظمة من منظمات المجتمع المدني، ترفع الصوت أو تنظم حركة أو تتقدم ببرنامج يحدد المسؤولية المالية لكل فرد ومجموعة تجاه المجتمع؟
نجدهم يطلقون الاقتراحات ويطرحون التعديلات لقوانين الانتخاب، ويطالبون بدولة حديثة في وجه جزر الأمن ومحميات الإنفاق. لقد قدم منظرو المواطنية الدولة المدنية على أنها الحل السحري لكل مصائب الوطن، وهذا هو الصواب. شرعوا في فتاوى المساواة في الحقوق والواجبات وتوسعوا فيها. لكنهم لم يأتوا على كيفية المشاركة الضريبية في المجتمع، وتطبيقاتها، وعلى الأطر اللازمة لتوفير الإمكانات للدولة لتقوم بواجباتها.
يٌحاسَب المسؤولون على تقصيرهم في توفير الخدمات، أي في الإنفاق، ولا تجد من يحاسبهم على التقصير في توفير الإيرادات. تقوم التظاهرات وتحرق الدواليب عندما يستفحل انقطاع الكهرباء، لكنك لن تجد أحدا ينزل إلى الشارع ليطالب بتعميم جباية الفواتير، أو بإعادة النظر في جدول التعرفة المعتمدة. الجميع يطالب بالإصلاح ولا أحد يضع حساباً لأكلافه. يفترضون أن الإصلاح سوف يمول نفسه بنفسه ولن يرهق المجتمع بأكلاف إضافية. ليس لدى الدولة القدرة المالية على إصلاح نفسها، حتى لو أراد القيمون عليها وسعوا. صحيح أن الإصلاح سوف يحقق وفراً بالغاً في جوانب إنفاق كثيرة، لكن إذا اختار المجتمع الولوج إلى حد أدنى من مستوى الخدمات والحماية الإجتماعية، فذلك سوف يرتب أكلافاً إضافية تفوق بأضعاف الوفر المحقق.
ولتحقيق الإصلاح المرتجى، يتوجب أولاً إرساء عقد اقتصادي-اجتماعي جديد يزيد الواجبات المالية على المجتمع ككل، ويشمل خصوصاً جميع الذين كانوا يتمتعون مجاناً حتى الآن برعاية لا تصيب في غالب الأحيان من يستحقها. إنَّ الإصلاحيين، وخصوصاً دعاة المواطنية، مدعوون لترجمة أهدافهم أرقاماً، ولتحديد كيفية التوزيع العادل للأعباء والمسؤوليات، ومثلها نسب الرعاية المبتغاة. فمن دون ذلك، تبقى دعواتهم كلاماً بكلام. ناشر وباحث اقتصادي
|