يتفق الكثيرون على أن الحرب التي بدأها التحالف الدولي ضد تنظيم «داعش» عاجزة وحدها عن هزيمته، ويتفقون تالياً على صعوبة تحقيق انتصار حاسم على الارهاب الاسلاموي وتجفيف منابعه من دون رفد العمليات العسكرية بجهود تنموية محايثة، سياسياً وثقافياً واقتصادياً، والاهم بمواقف إقليمية ودولية تتطلع لرد المظالم لشعوب المنطقة ووأد الاحتقانات الدينية والاستثمار في حقل الصراع المذهبي. لكن نقطة الخلاف التي تظهر اليوم تتعلق بجدوى توسل الاسلام السياسي المعتدل لمواجهة الفكر المتطرف، حيث بت تسمع رفضاً قاطعاً لهذا الخيار باعتباره رهاناً مجرباً وخاسراً، ربطاً بالدعوة الى فصل الدين عن السياسة كمقدمة لا بد منها لإزالة اسباب تجدد العنف الجهادي، ثم بتوجيه إدانة صريحة للإسلام السياسي عموماً لأنه شل حركة مجتمعاتنا وأضعف قدراتها على التحرر من الاستبداد وعلى تمثل الحداثة والوعي الثقافي والإنساني المعاصر، ويدعم أصحاب هذا الرأي موقفهم بما يلي من نقاط...
أولاً، اتكاؤهم على حقيقة تاريخية تؤكد العلاقة الطرديه بين تطور الاسلام المعتدل ونمو الإسلام المتشدد، وبأن هذا الأخير شهد أزهى فتراته في ظل قيام سلطات دينية وانتشار واسع لتيارات الاسلام السياسي وليس العكس، مع ربط الموجة الراهنة لتصاعد الفكر السياسي الاسلامي والجهادي بقيام الدولة الدينية في إيران، والاستقواء بمثال الإرهاب اليساري الذي شهد بدوره حضوراً ونشاطاً لافتين في مناخ التمدد الشيوعي، وانحسر بعد تفكك ما كان يعرف بمنظومة الدول الاشتراكية.
ثانياً، انحسار ثقة الناس بتيارات الاسلام السياسي المعتدلة، والتي بمجرد وصولها إلى السلطة تنسى اعتدالها وتتنكر لشعارات الحرية والمساواة التي رفعتها، ساعية الى الاستئثار بكل شيء واستخدام كل الوسائل بما في ذلك الارهاب والعنف للحفاظ على سيادتها وسطوتها، والأمثلة كثيرة تبدأ بغزة وتصل إلى مصر، الأمر الذي شجع على إهمال الفوارق بين قوى الاسلام السياسي، واعتبارها فوارق في الشكل والدرجة وليس في النوع، وتتوزع بين من تغلو وتتشدد وبين من تتبع أساليب مرنة، لكنها كلها مؤهلة لتبادل المواقع طالما تخدم هدفاً واحداً هو فرض ما تعتبره شرع الله على الأرض.
ويسأل هؤلاء، ألم يخرج الجهاديون من عباءة الاسلام المعتدل، أولا تعدّ الجماعات المتطرفة امتداداً سياسياً وعقائدياً واجتماعياً للإخوان المسلمين، وتمثّل وجههم الحقيقي وهدفهم السياسي الأقصى؟!. أولم تؤكد التجارب المريرة أن كل العقائد والأيديولوجيات الشمولية هي عقائد متشددة وتنطوي على مقدار هائل من الكراهية للآخر؟ أولا يحفل مختلف الأديان والمذاهب بأحاديث وتشريعات وفتاوى وسير للأوائل تعكس مقداراً كبيراً من الأحكام المعيارية والعبارات الدالة على التعصب وعدم التسامح إزاء المختلف عقائدياً، وتحمل نزوعاً قوياً للسيطرة على الآخر والهيمنة عليه وإقصائه؟
ثالثاً، موقف الكثير من تيارات الاسلام السياسي التي توصف بالمعتدلة من الحرب ضد «داعش»، حيث لم تؤيدها إلى الآن تركيا، وإن أظهرت تصريحات أردوغان الأخيرة رغبة في تغير موقف بلاده من «داعش» مقترنة باشتراط لرئيس الوزراء أوغلوا عن ضمان شريط آمن على طول الحدود مع سورية لكف شر أنصار حزب العمال الكردستاني، بينما تواترت التصريحات الحادة، لزعامات إسلامية، سياسية ودينية، في رفض الجهد العسكري الدولي ضد «داعش»، إما لأنها اعتبرته تعدياً مقصوداً على المسلمين السنّة، يعزز تهميشهم وإذلالهم، ويقدم فائدة للمحور الايراني، إذا لم يترافق مع محاربة إرهاب النظام السوري والميليشيا الشيعية العراقية و «حزب الله»، وإما لأنها لا ترى في ما يقوم به «داعش» سوى خلاف فكري ومسلكي ناصحة اياه بالتعقل والعودة إلى سماحة القرآن والسنّة والسيرة النبوية.
أمر مبرر وجود تعاطف للمسلمين السنّة مع القوى الجهادية يستمد جذوته من الشعور بالظلم وانسداد أفق السياسة ودورها في التغيير، بخاصة وقد أفضى التقدم الحثيث لـ «داعش» في العراق وسورية إلى إظهار معاناتهم وتحريك مطالبهم المشروعة، لكن كيف نبرر دفاع بعض الإسلاميين المعتدلين عما يحصل من إرهاب إسلاموي لأنه الرد على إرهاب الآخرين، أو حين يستثمرونه لتعزيز حضورهم وتسويق أنفسهم كبديل؟
قبل انطلاق «الربيع العربي»، نأت غالبية تيارات الاسلام السياسي عن الشعارات الدينية وبادرت الى تبني شعارات تتناغم مع مصالح المجتمع عن الحرية والمساواة، ما أكسبها دوراً ريادياً في غالبية الثورات العربية، لكن الانزلاق إلى روح الاستئثار لتعزيز السيطرة على البلاد، أثبت لكل ذي عقل أن هذه التيارات تضمر غير ما تظهر وأنها ما إن تتمكن حتى تبدأ بتطبيق برنامجها الديني وفرض نمط حياتها على الجميع من دون اعتبار للشعارات التي رفعتها سابقاً وغازلت بها الرأي العام الداخلي والعالمي، ما أفقدها فرصة قيادة المجتمع ومعالجة أزماته المتفاقمة، وتالياً ثقة الناس بمبادئها وشعاراتها.
والحال، لا يمكن أكثرية مظلومة، قومية كانت أو دينية، أن تنتصر لحقوقها وتسترد موضوعياً زعامتها التاريخية، ودورها في صناعة التاريخ وقيادة المجتمع إن غرقت في خصوصيتها وإن لم تتنطح للدفاع عن الحقوق العامة، عن المساواة بين الناس من دون النظر إلى جنسهم أو مذهبهم أو دينهم أو قوميتهم، عن أوطان ديموقراطية تضمن للجميع حقوقهم ومصالحهم من دون تمييز.
في الماضي لم تنجح محاولات خلق قوى سياسية إسلامية معتدلة في تخليص المجتمعات العربية من السيطرة العثمانية المديدة، بينما نجح الفكر القومي عندما دعا الى المساواة بين أبناء «الأمة الواحدة»، واليوم يعيد التاريخ طرح السؤال: هل تبقى الأكثرية المظلومة أسيرة زعامات سياسية ودينية أدمنت الجمود والتقليد، وتسعى الى تجيير الصراعات المتخلفة كي تكرس حضورها وامتيازاتها، أم ان واجبها ومسؤوليتها يحتمان عليها تصدر المشهد الوطني ومسك زمام المبادرة، بداية لتنزيه الدين من دنس المصالح الدنيوية، ثم توظيف قدراتها وكفاءاتها لقيادة التحول الديموقراطي وبناء وطن معافى يؤمن بالتنوع والتعددية ويتشارك القيم الأخلاقية والإنسانية التي تُجمع عليها كل الأديان؟
* كاتب سوري
|