الأربعاء ٢٧ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: أيلول ٢٩, ٢٠١٤
المصدر: موقع المصري اليوم
أقصر الطرق لمثول الصحفى أمام النائب العام - صلاح عيسى
كان الزعيم الراحل سعد زغلول، قائد ثورة 1919، شديد الاعتداد بنفسه، بسبب ثقة الشعب البالغة به، والتفاف أغلبية المصريين حوله، وحبهم الجارف له، لذلك كان - بعد أن فاز حزب «الوفد» الذى يترأسه بالأغلبية الكاسحة من مقاعد مجلس النواب، وتولى «سعد» تشكيل الحكومة عام 1924 - يضيق بهجوم صحف المعارضة على حكومته، إذ كان من رأيه أنها صحف ينطق بعضها بلسان أحزاب الأقليات السياسية المكروهة من الشعب، والتى لم تفز بثقته فى الانتخابات، ويحصل بعضها الآخر على دعم مالى وأدبى من خصومه الشخصيين، الذين يسعون لهدم زعامته، فضلاً عن أن بعض الذين كانوا يشنون الحملات على شخصه أو حكومته، على صفحات تلك الصحف، كانوا يتجاوزون النقد المباح إلى القذف والسب المؤثمين قانوناً.

وكان ذلك ما دفع سعد زغلول للإفراط فى استخدام حقه القانونى فى تقديم بلاغات للنيابة العامة ضد بعض الصحف التى تلد فى معارضته، خاصة جريدة «السياسة» التى كانت تنطق بلسان حزب «الأحرار الدستوريين»، ويرأس تحريرها «د. محمد حسين هيكل»، حتى وصل عدد البلاغات التى قدمها رئيس الوزراء ضد الجريدة إلى خمسة بلاغات، وهو ما دفع بعض أولاد الحلال للتوسط بين الطرفين لإنهاء الخلاف، كان من بينهم «عبدالرحمن رضا باشا»، وكيل وزارة الخارجية، ووالد زوجة «د. هيكل»، الذى قابل سعد وناقشه فى الموضوع، وأثناء الحوار بينهما حول شروط الصلح، قال له: «ما ضرورة هذا الانتقام؟»، فأجاب «سعد» بغضب: «انتقام يا عبدالرحمن؟! أنا ألجأ إلى النيابة كما يلجأ إليها أضعف الناس رجالاً ونساء، وتسمى هذا انتقاماً؟».

تذكرت هذه الواقعة وأنا أتابع خلال الأسبوع الماضى وقائع الضجة التى أثارها البلاغ الذى قدمه وزير الثقافة د. جابر عصفور إلى النيابة العامة ضد الناقد طارق الشناوى، بسبب مقال له، نشره فى زاويته اليومية بجريدة «التحرير الجديد» بعنوان «وزير الانتقام»، اتهم فيه الوزير بأنه يصفى حساباته الشخصية مع خصومه ببعض ما اتخذه من قرارات، وردت فيه عبارات اعتبرها دفاع الوزير قذفاً وسباً فى حقه، مما دفعه لتقديم البلاغ، وهو ما اعترضت عليه على هامش لقاء محدود مع الوزير، عقد بالمصادفة يوم نشرت الصحف خبر استدعاء طارق الشناوى للمثول أمام النيابة العامة، استناداً إلى الأسباب نفسها التى استند إليها كثيرون ممن كتبوا فى الصحف يعلقون على الأمر، ومن بينها أن أسلاف د. جابر عصفور فى وزارة الثقافة نفسها، لم يلجأوا إلى هذا الأسلوب على قسوة وفجاجة بعض ما وجهته إليهم الصحف من شتائم تخرج عن نطاق النقد المباح، وكان منطق د. جابر عصفور فى تفسير موقفه هو الذى ذكّرنى بما قاله سعد زغلول فى مناسبة مشابهة، مع حفظ ألقاب ومقامات كل الأطراف، وفيما بعد تمكن أولاد الحلال فى نقابة الصحفيين من إقناع الوزير بأن يحول البلاغ من النيابة العامة التى لو نجحت فى إثبات التهمة ضد طارق الشناوى أمام المحكمة لعوقب بغرامة قد تصل إلى عشرين ألف جنيه، فضلاً عن تعويض مدنى قد يبلغ أضعاف ذلك إلى نقابة الصحفيين لتحاسبه هيئة التأديب بتهمة خروجه عن ميثاق الشرف الصحفى، فإذا أدانته فسوف يواجه عقوبات تتدرج من الإنذار إلى الفصل من عضوية النقابة، وآمل أن تتواصل المساعى النقابية لإنهاء هذه الخصومة، بحيث يتم الصلح بين الطرفين على أساس حماية حقوق كل منهما.

ما لفت نظرى فى بعض ما كُتب عن الموضوع وما صدر بشأنه من بيانات وتصريحات، أن هناك التباساً فى الفهم يدفع بعض الصحفيين والإعلاميين للدهشة التى قد تصل إلى حد الغضب، لمجرد أن وزيراً أو مسؤولاً تجاسر على استخدام حقه القانونى فى إبلاغ النيابة العامة ضده، بسبب ما كتبه أو أذن بنشره، وهو ما يدل على أن بعضهم قد لا يعرف شيئاً عن النصوص القانونية والدستورية التى تنظم الحق فى ممارسة حرية الصحافة والنشر والإعلام، أو أنه قد نسى هذه النصوص التى توقف تطبيق بعضها، على الرغم من أنها لاتزال قائمة فى القانون، وسواء كان الأمر جهلاً أو سهواً، فهو يقودهم إلى الشطط فى التعبير عن آرائهم، فيعتدون، بقصد أو دون قصد، على حقوق الآخرين التى يحميها القانون، وتحميها مواثيق الشرف والمدونات الأخلاقية للصحافة، ولا يتنبهون لذلك إلا حين يجدون أنفسهم أمام حكم قضائى أو تأديبى يصدر ضدهم.

والغريب أن بعض الصحفيين والإعلاميين - الذين يغضبون لمجرد أن أحداً، سواء كان وزيراً أو خفيراً، قد قادهم إلى المحكمة لأنهم سبوه أو قذفوا فى حقه أو انتهكوا حرمة حياته الخاصة - لا يتسامحون مع زملائهم الذين قد يمارسون ذلك ضدهم، ولا يعتبرون ما كتبوه عنهم حرية رأى ينبغى احترامها، وبدلا من أن يحتكموا إلى نقابتهم التى يلزمها قانونها بتسوية ما بينهم من خلافات، يتجاهلونها ويسرعون بجرجرة زملائهم إلى النيابات والمحاكم، ويستصدرون ضدهم أحكاماً بالغرامة والتعويض المدنى.

حدث منذ عدة أعوام أن زميلين من الصحفيين كانا يتناظران فى أحد البرامج الفضائية، فاتهم أحدهما الآخر بأنه عميل لدولة أجنبية، وأنه كان يتقاضى من جهاز مخابراتها راتباً ثابتاً، ونفى الآخر الاتهام، وطلب من زميله أن يسحبه على الهواء مباشرة وإلا قاضاه، فرفض، وعندما حكمت المحكمة ضده بتعويض مدنى قدره عشرون ألف جنيه، لجأ إلىّ لأتوسط بينهما، وحين عاتبته على ما قاله فى حق زميله، اعتذر بأن سخونة النقاش هى التى قادته لإطلاق الاتهام، وأبدى استعداده لأن يعتذر علنياً عنه، ولكن المجنى عليه رفض الصلح، وعندما قلت له إن مبلغ التعويض يستنفد كل مدخرات الزميل، وإن من واجبه أن يراعى حقوق الزمالة، قال ساخراً: ولماذا لم يراعها هو؟!

والحقيقة أن الشطط فى ممارسة حرية الرأى والتعبير، وبالذات ما يتعلق بالسب والقذف وغيرهما من جرائم النشر التى تمثل عدواناً على حقوق الآخرين، التى يصونها الدستور والقانون، قد أصبح ظاهرة يتوجب على كل من يعنيهم أمر حرية الصحافة والإعلام أن يتصدوا لها، حفاظاً على آداب المهنة وتقاليدها وعلى مكانتها لدى الرأى العام، وحتى لا يبدو وكأن المشرع الدستورى قد أخطأ حين استجاب للهدف الذى ظل الصحفيون يناضلون من أجله سنوات، وهو إلغاء العقوبات السالبة للحرية فى كل جرائم النشر، وتهيئة المناخ الأفضل لكى تأتى القوانين المكملة لمواد الدستور الخاصة بحرية الصحافة - التى يجرى تدارس مشروعاتها الآن - بمزيد من الحريات، بدلاً من المناخ الحالى الذى قد يشجع الضائقين بالحريات عموماً، وبحرية الصحافة والإعلام بالذات، على البحث عن ثغرات تشريعية تقيد هذه الحرية، لأن بعض المشتغلين بالمهنة يعطون الانطباع بأنهم يفضلون أن تتحول الصحف والشاشات إلى مشتمات عمومية.

ما يتوجب على الصحفيين والإعلاميين أن يتذكروه هو أن القانون القائم يفرق بين «السب» - وهو العبارات التى تنطوى على خدش للشرف والاعتبار - و«القذف» - وهو نسب أمور لو صحت لأوجبت عقاب من أُسندت إليه، فلو وصفت شخصاً بأنه «جاهل» أو «تافه»، فهذا سب، وإذا أسندت إليه أنه لص أو مرتش أو يسىء استخدام سلطته، فهذا قذف لأن هذه كلها جرائم يعاقب عليها القانون.. وما يتوجب عليهم أن يتنبهوا إليه هو أن القانون يحظر القذف والسب على إطلاقهما، سواء كانا يمارسان ضد آحاد الناس أو ضد كبار المسؤولين، وأن النقد المباح الذى لا يعاقب عليه القانون هو الذى يوجه إلى الموظف العام والشخص ذى الصفة النيابية العامة أو المكلف بخدمة عامة، على أن يكون قد حصل بسلامة نية، وكان لا يتعدى أعمال الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة، بشرط أن يثبت الصحفى أو الإعلامى حقيقة كل فعل أسنده إلى المطعون فى حقه، ولا يغنى عن ذلك اعتقاده صحة هذا الفعل!

وفى هذا الإطار يجوز لهم أن ينقدوا الوزراء، وأن يوجهوا إليهم الاتهامات، بشرط أن تتعلق بمهام وظائفهم، وأن تكون لديهم أدلة تثبت صحتها، فإذا لم تكن لهذه الاتهامات صلة بمهامهم أو لم يكن لدى الصحف أدلة عليها أو كانت مجرد سباب شخصى، فتلك هى أقصر الطرق لمثول الصحفى أمام النائب العام!


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
منظمة حقوقية مصرية تنتقد مشروع قانون لفصل الموظفين
مصر: النيابة العامة تحسم مصير «قضية فيرمونت»
تباينات «الإخوان» تتزايد مع قرب زيارة وفد تركي لمصر
الأمن المصري يرفض «ادعاءات» بشأن الاعتداء على مسجونين
السيسي يوجه بدعم المرأة وتسريع «منع زواج الأطفال»
مقالات ذات صلة
البرلمان المصري يناقش اليوم لائحة «الشيوخ» تمهيداً لإقرارها
العمران وجغرافيا الديني والسياسي - مأمون فندي
دلالات التحاق الضباط السابقين بالتنظيمات الإرهابية المصرية - بشير عبدالفتاح
مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان
تحليل: هل تتخلّى تركيا عن "الإخوان المسلمين"؟
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة