مع التحضيرات لإقامة الحلف ضد «داعش»، حرصت الإدارة الأميركية على تكرار القول إنها لن تسمح لبشار الأسد بالاستفادة من حربها على الإرهاب. تلك التأكيدات لم تعزز الثقة بالإدارة في الأوساط السورية والعربية، فهي بدت في غالبيتها نوعاً من طمأنة موجهة إلى الدول العربية المنضوية في الحلف والمعادية للنظام السوري، ولن تكون المرة الأولى في حال خذلت أميركا حلفاءها العرب، وأنهت حربها بتسويات على حساب مصالحهم.
العربون العملي الوحيد الذي أعلنت عنه الإدارة هو تدريب خمسة آلاف مقاتل من المعارضة السورية المعتدلة، وهو رقم لا يفي أبداً بمتطلبات الحرب البرية على «داعش» ومواجهة النظام معاً، بل لا يفي بمتطلبات مواجهة النظام فيما لو تكفلت الضربات الجوية بـ «داعش»، فضلاً عن أنه لا يندرج في خطة إستراتيجية أوسع للضغط على النظام.
الفراغ الذي يخلّفه ضرب «داعش» ينبغي ملؤه. الإدارة الأميركية نفسها لن تقبل بتكرار تجربة الفراغ التي أتت بـ «داعش»، والمعارضة لا تستطيع ملء الفراغ من دون دعم دولي، بخاصة من دون حظر للطيران فوق مناطق سيطرتها، فيما إقامة مناطق حظر جوي أمر غير متوقع في المدى المنظور، ومنطقياً لا قوة قادرة على ملء الفراغ سوى النظام السوري. وبما أن قوة النظام قد امتُحنت سابقاً، عندما هُزمت في مناطق سيطرة «داعش» الحالية، فما يُقصد بالضبط قوته المشفوعة بتواطؤ دولي قد لا يكون قريب المنال إلا أن تحققه ليس مستبعداً تماماً أيضاً.
مع ذلك، فمنفعة النظام من القضاء على «داعش» لا تتوقف عند مكاسب ميدانية هنا أو هناك. المنفعة الأكبر هي في تخليصه من العدو الأخطر الذي بدأ يهدد تماسك صفوف الموالاة، إذ مهما قيل عن الخدمة الموضوعية التي قدّمها «داعش» للنظام إلا أن الأول بعد تمدده زرع الرعب في صفوف الموالاة، وأظهر لها عدم قدرة نظامها على حمايتها، وبسبب «داعش» فقط تعرض النظام لأكبر موجة تململ بين صفوف موالاته. بل دفع الخوف ببعض الموالاة، للمرة الأولى، إلى المقارنة بين «داعش» وفصائل المعارضة الأخرى لتكون الأخيرة من وجهة نظرها أهون الشرين. من هذه الجهة، ضرب «داعش» يقلب هزيمة النظام إلى نصر مزدوج، فـ «داعش» تكفلت سابقاً بإنهاك المعارضة، ويُقضى عليها الآن وقد بدأت تنجح في ضعضعة صفوف الموالاة.
قد لا ينجح النظام في الحصول على أقصى أمانيه، من حيث قبوله في التحالف الدولي واكتساب شرعية البقاء، لكنه يعلم أن بقاءه أو عدمه لن يكون رهن لحظة إنشاء التحالف، لأن مسار التحالف لن يكون محدداً بصرامة، ولأن مَن أغلقوا الباب أمام انضمامه لم يغلقوه أمام رعاته الإيرانيين. تصريحات المسؤولين الأميركيين عن فقدان الأسد الشرعية لا تعني الكثير، هي لم تتجسد أفعالاً منذ ثلاث سنوات حتى الآن، وهناك سوابق مشجّعة على تراجع الأميركيين ضمن تسويات يرونها مناسبة، مثلما حدث في السودان الذي أُحيل ملف سلطته على محكمة الجنايات الدولية بسبب انتهاكاته حقوق الإنسان في دارفور، ثم جُمّد الملف على أرضية اتفاق انفصال الجنوب.
أغلب الظن أن موجة من المساومات، وربما التراجعات الأميركية، سنشهدها بعد الضربات الأولى لـ «داعش»، بما في ذلك (ربما) التراجع عن الامتناع الكلي عن التنسيق مع النظام السوري. التشدد الأميركي إزاء النظام لم يكن أصلاً وليد موقف راسخ للإدارة، فهو أتى بسبب مطالب دول الخليج المنضوية في التحالف. وبسبب سوابق الإدارة ذاتها في العراق، عندما انقلبت على فوز قائمة إياد علاوي في الانتخابات قبل الأخيرة، ليس مستغرباً أن تنقلب هذه المرة أيضاً على تعهداتها، فضلاً عن أنها في الأصل لم تتعهد بعملية متكاملة تضمن في النهاية إنهاء مرحلة بشار الأسد. تكرار الحديث عن عدم وجود حل عسكري، مع التصلب الروسي والإيراني، لا يعني عملياً سوى استحالة الحل السياسي أيضاً.
تراجع موجة التفاؤل التي رافقت تنحية المالكي، ومن ثم إنشاء التحالف، يشير إلى أن التفاؤل لم يكن مبنياً على معطيات راسخة، وأن من بنوا تحليلاتهم على فرضية إسقاط «داعش» مدخلاً لإسقاط الأسد غلّبوا الرغبات على الوقائع. ذلك لا يمنع وجود لحظة مفوَّتة كان بوسع الحلفاء العرب استغلالها على نحو أفضل، وإذا لم يكن في وسعهم فرض تغيير جذري على سلوك الإدارة الأميركية إزاء الملف السوري فقد كان في وسعهم الضغط للحصول على مكاسب أعلى للمعارضة، بدل الموافقة على سقف الخمسة آلاف مقاتل الذين لن يحصلوا أيضاً على مضادات للطيران.
غير بعيد من ذلك، تلقى الحلفاء العرب صدمة كبيرة باستيلاء الحوثيين على صنعاء وسط تجاهل أميركي، وفيما عدا الأهمية الكبيرة لموقع اليمن أسقط الحوثيون نموذج التسوية اليمنية الذي رعته دول الخليج مع أميركا، أي أن النموذج الذي يُراد الاحتذاء به في سورية من قبل الدول ذاتها أُسقط فعلياً لمصلحة حلفاء الأسد.
في الأساس، التحالف الدولي غير موجه ضد نظام الأسد. لم يقل أحد خلاف ذلك، والإدارة الأميركية التي قاومت الضغوط السابقة لاتخاذ موقف صارم منه فازت بالتحالف من دون تنازلات تُذكر سوى كلام مبهم عن عدم تمكين الأسد من الاستفادة من الحلف. فَهْم إذعان الأسد وتوسله الانضمام إلى الحلف على أنهما بداعي الخوف يرضي فقط أولئك المتفائلين بالسياسة الأميركية، لكنهما من جهة النظام محاولة اقتناص الفرصة على أكمل وجه، بعد أن صار بعض المكاسب مضموناً. الآن، لوم الإدارة الأميركية لا معنى له بعيداً من الجانب الأخلاقي، وهذا اللوم ينتسب سريعاً إلى سياق من المآخذ العربية على السياسة الأميركية طوال عقود، بالتزامن مع الفشل الذريع في التأثير عليها. المفارقة القائمة على أن الإدارات الأميركية قدمت مكاسب لأعدائها المعلنين في المنطقة أكثر مما قدّمت لأصدقائها لم تعد تثير الدهشة. فقد جرت العادة، عندما يحين موعد التسويات الكبرى، أن تبرمها مع الأعداء. المفاجأة ليست هنا، المفاجأة في ما لو تحسّب أصدقاء أميركا للتسوية القادمة هذه المرة. |