عمرو حمزاوي
دعوت يوم الأحد الماضي الناخبات والناخبين في مصر للذهاب إلى مراكز الاقتراع، على الرغم من محدودية ضمانات نزاهة العملية الانتخابية وبعد أن أفشل غياب وحدة قرار المعارضة خيار المقاطعة الذي مثل لي الإستراتيجية الأفضل للتعامل مع الانتخابات. وعللت دعوتي هذه من جهة بالتأكيد على بعض فوائد الحد الأدنى الممكن تحققها مع مشاركة المواطنين في الانتخابات كالحد جزئيا من التجاوزات والخروقات المتوقعة وإعطاء غطاء شعبي وفاعلية لجهود الرقابة المحلية، وبالقول من جهة أخرى باستطاعة الناخبين توظيف أصواتهم بمسؤولية وذكاء بإعطائها لمرشحين يثقون بقدرتهم على تمثيل الدائرة المعنية بأمانة أو بالتصويت الاحتجاجي ضد نواب سابقين لم يقدموا المنتظر منهم، أو بالاحتجاج على احتكار الحزب الوطني لمجلس الشعب ومساندة مرشحي المعارضة أو بالتصويت للمرشحات والمرشحين الأقباط ودعم مشاركتهم الإيجابية في الشأن العام في لحظة احتقان طائفي مقيت.
وقد كان هدفي هنا هو التمييز سياسيا ومجتمعيا بين الملامح الكبرى لمشهد انتخابي غير ديموقراطي ومعلوم النتائح سلفا، أي تلك الملامح التي تفرض على الناخبين مزيجا محبطا من الشك في نزاهة العملية الانتخابية وفي جدواها وتدفعهم من ثم تقليديا إلى العزوف عنها والبقاء بعيدا عن مراكز الاقتراع، وبين بعض الساحات الفرعية والتفاصيل الصغيرة التي كان لها أن تتحول إلى ظواهر إيجابية يوم الانتخاب شريطة مشاركة المواطن.
فما الذي حدث في هذا الشأن في جولة الانتخابات البرلمانية الأولى؟ لم تقنع فوائد الحد الأدنى هذه العدد الأكبر من الناخبات والناخبين في مصر ولم تمكنهم من التغلب على شكوكهم التقليدية، فجاءت نسبة مشاركتهم (وبعيدا عن مبالغات اللجنة العليا للانتخابات التي تحدثت بمفردها عن نسبة 35 بالمئة!) على التدني ذاته الذي وسمها في الانتخابات البرلمانية الماضية، أي 20 في المئة في أحسن الأحوال، ونزعت بذلك عن انتخابات 2010 أحد المضامين الأساسية لشرعيتها والمتمثل في مشاركة شعبية حقيقية.
ثم جردت الانتخابات، وبفعل التجاوزات والخروقات المنظمة التي شابت سير الجولة الأولى ووثقتها تقارير المراقبين المحليين وشهادات بعض القضاة، من مضمون الشرعية الثاني المرتبط بإدراة العملية الانتخابية بنزاهة (ولنقل في حالة مصر بشيء من النزاهة) تكفل تكافؤ الفرص (ولنقل في حالة مصر حدا أدنى من تكافؤ الفرص) بين المتنافسين وتضمن تعبير النتائج (ولنقل في حالة مصر إلى حد ما) عن تفضيلات هذا العدد (المحدود) من المواطنين الذين أدلوا بأصواتهم.
كعادتها هيمنت الأجهزة الأمنية على إدارة العملية الانتخابية، فتلاعبت بنتائجها لمصلحة مرشحي الحزب الوطني، وأعاقت بعض القضاة المشرفين عن القيام بعملهم، ومنعت الكثير من المراقبين من الدخول إلى مراكز الاقتراع أو البقاء بها مدة زمنية تكفي لتقويم سير الانتخاب على نحو موضوعي، وحالت بين ناخبين مؤيدين لبعض مرشحي المعارضة الحزبية وغير الحزبية وبين الإدلاء بأصواتهم. ولم تتمكن السلطة القضائية من الحد من هيمنة الأجهزة الأمنية، مع الضعف العملي للجنة العليا، وبعد إزالة الإشراف القضائي الكامل على الانتخابات وتحول الأمر من "قاضٍ على كل صندوق" إلى قاضٍ لكل 20 مركز اقتراع تقريبا (بلغ عدد القضاة الذين أشرفوا على الجولة الأولى 2286 وزعوا في لجانهم العامة على أكثر من 45 ألف مركز اقتراع).
وتواكب مع محدودية نزاهة العملية الانتخابية، وترتب عليها جزئيا على الأقل، انتهاء الجولة الأولى للانتخابات بنتيجة صادمة للرأي العام المصري ولكل مهتم باحتفاظ مجلس الشعب الجديد بقدر من التوازن في ما خص تمثيل الحزب الحاكم وأحزاب وحركات المعارضة. فقد فاز مرشحو الحزب الوطني ب 209 من إجمالي 221 مقعد حسمت في الجولة الأولى، وسقط معظم مرشحي أحزاب المعارضة المسجلة وجماعة الإخوان المسلمين وقررت الأخيرة ومعها حزب الوفد سحب مرشحيهما الباقين لجولة الإعادة ومقاطعة الانتخابات. والحصيلة، وبغض النظر عن نتائج جولة الإعادة، هي أن تمثيل المعارضة المنظمة (أي المؤطرة في أحزاب أو حركات) في المجلس الجديد لن يتجاوز في أحسن الأحوال 5 في المئة، وأن الوفد والإخوان سيغيبان عنه بالكامل بينما سيمثل به الضعيف والهامشي من الأحزاب. نعم قد تسفر جولة الإعادة عن فوز عدد من المرشحين المستقلين بمقاعد في مجلس الشعب ربما زادت نسبتها عن 10 في المئة وقد لا ينضم جميع هؤلاء في ما بعد إلى الحزب الوطني وقد تتوقف غالبية الأخير عند حد 80 في المئة، إلا أن المؤكد هو أن المعارضة المنظمة لن يكون لها أي وجود حقيقي في المجلس الجديد ولن تقدر من ثم على المساهمة الفعالة في عمله التشريعي والرقابي. تنزع مثل هذه الحصيلة عن الانتخابات والمجلس، وهي تعني تماهيا شبه تام بين مؤسسة الحكم والسلطة التنفيذية وبين السلطة التشريعية عبر غالبية الحزب الحاكم الكاسحة، مضمونا ثالثا من مضامين الشرعية يتعلق بشرعية التمثيل المتوازن نسبيا للحكم والمعارضة وشرعية استقلالية السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية وممارستها الرقابة عليها (أو لنقل في حالة مصر شيئاً من الرقابة). نحن اليوم، وأكرر وبغض النظر عن نتائج جولة الإعادة، أمام مجلس شعب يتسم بتركيبة أحادية تذكر بعهود مجلس الأمة والاتحاد الاشتراكي وسينظر حتما لكل ما يمرره من تشريعات وقوانين وموازنات كترجمة مباشرة وصريحة لإرادة مؤسسة الحكم وحزبها بعد أن استأثرا به.
يدفع نزع مضامين الشرعية الثلاثة هذه، شرعية المشاركة الشعبية في الانتخابات وشرعية نزاهة العملية الانتخابية وشرعية التمثيل المتوازن بالسلطة التشريعية واستقلاليتها النسبية عن نظيرتها التنفيذية، بالحياة السياسية المصرية إلى أتون أزمة كبرى ذات تداعيات خطيرة. فقد أضحت انتخاباتنا سيئة السمعة وعادت المعارضة المنظمة إلى مقاطعة الأطر الرسمية وبتنا مجددا أمام برلمان اللون الواحد والوجهة الواحدة، كل هذا ومؤسسة الحكم على تعنتها، وفعلها لا يدلل على بدايات مراجعة نقدية أو بحث جاد عن مخارج للأزمة، وكل هذا ولم يعد يفصلنا عن انتخابات رئاسية حاسمة سوى أقل من عام. هذه لحظة حزينة لمصر ولنا جميعا.
باحث مصري في مركز "كارنيغي" للسلام
|