الاربعاء, 08 ديسيمبر 2010
عمار علي حسن *
تقود القراءة الرقمية المجردة والمتعجلة لنتائج الانتخابات الاشتراعية المصرية إلى فهم خاطئ في تحديد الرابح والخاسر، وتعيين ملامح الممارسة السياسية خلال السنوات المقبلة. فمثل هذه القراءة ستقول، للوهلة الأولى ومن دون مواربة، إن «الحزب الوطني الديموقراطي» الحاكم اكتسح الانتخابات بينما ترنّحت أحزاب المعارضة مكانها وخرجت جماعة «الإخوان المسلمين» صفر اليدين. لكن تجاوز الحسابات الكمية وإمعان النظر في ملابسات الانتخابات ونتائجها غير المباشرة والسيناريوات المحتملة لأوضاع النظام السياسي المصري في السنوات القليلة المقبلة، تبين بجلاء أن الجميع خسروا. فالحزب الحاكم اقتنص الغالبية الكاسحة، لكنه بات يعاني بعد الانتخابات البرلمانية من ثلاث أزمات متزامنة، يمكن ذكرها على النحو الآتي:
1 - أزمة صدقية، وذلك قياساً على الوعود التي قطعها الحزب أمام المصريين بأن العملية الانتخابية ستتوافر لها الشروط المناسبة من الشفافية والنزاهة وتكافؤ الفرص بين المتنافسين. لكن هذا لم يتحقق أبداً، بشهادات وملاحظات وقرائن وأدلة وأحكام قضائية عدة تشكك في سلامة الانتخابات، وتطعن في قانونيتها، وتتهم السلطة بتزويرها في شكل فج، من دون مراعاة الحدود الدنيا من اللياقة السياسية، والالتزامات القانونية، وكذلك التفاهمات التي أجريت مع أحزاب المعارضة أو الإيحاء لها بأن الانتخابات ستكون بداية لتقوية الأحزاب في مواجهة الحركات السياسية المطالبة بالإصلاح السياسي الجذري من خارج الحياة الحزبية، وعلى رأسها حركتا «كفاية» و «الجمعية الوطنية للتغيير». فطالما تحدث مسؤولون كبار في الحزب الوطني عن أن الوقت حان لتقوية الأحزاب وتعزيز وجودها، لحماية النظام السياسي برمته من أي عوامل تؤدي إلى تآكله، وبلعت أحزاب المعارضة هذا الطعم أو صدقت الحزب فدخلت الانتخابات وها هي تدفع الثمن. وعبر الأمين العام للحزب العربي الناصري الذي خسر كل مرشحيه في الجولة الأولى عن هذا الوضع بجلاء حين قال: «لقد غرر بها، وتم استدراجنا».
2 - أزمة بنائية، فالنظام السياسي المصري المعاصر يعتمد على المعادلات التي بنيت على أكتاف مسار «المنابر الحزبية» الثلاثة التي أنشأها الرئيس أنور السادات عام 1976 لليمين واليسار والوسط، والتي انتهت في عهد الرئيس مبارك إلى ما اصطلح علماء السياسة في مصر على تسميته بـ «التعددية الحــزبية المــقيدة» التي اعتمدت على حزب حاكم قوي تحيط به مجموعة من الأحــزاب التي تضفي عليه مسحة ديموقراطية من دون أن تحظى بأي فرصة لتشكل بديلاً للحزب الحاكم، وتتمكن من إزاحته والوصول إلى السلطة عبر صناديق الانتخابات.
ومع حصار الأحزاب بفعل القوانين الاستثنائية التي حرمتها من التواصل الطبيعي مع الجماهير ومع تحكم الحزب الحاكم في تشكيل الخريطة السياسية عبر إنشاء «لجنة شؤون الأحزاب» التابعة لمجلس الشورى الذي يرأسه الأمين العام للحزب الوطني الديموقراطي، رضيت المعارضة بدور «الديكور» واقتنعت بالفتات المتاح المتروك لها، وربطت مع تقدم السنين بين بعض قياداتها وبين السلطة همزات وصل غليظة مشبعة بالمنافع والمصالح.
وجاءت نتائج الانتخابات البرلمانية لتكسر هذه المعادلة، وتجهز على التعددية المقيدة، وتجهض الأحلام التي كان أصحابها يعتقدون أن الحياة السياسية يمكن أن تشهد ما يسد العجز ويصلح الفاسد لتولد تجربة حزبية حقيقية في مناخ مناسب يتيح للجميع التنافس على السلطة. وفي خرق المعادلة ما يضر بالحزب الحاكم نفسه، لأنه حطم بيده الديكور الذي يزين جدرانه السياسية فيصبح بوسعه أن يسوقها في الخارج، وأعاد مصر إلى «نظام الحزب الواحد»، أو «الجبهة الواحدة» التي كانت تشهده أيام «الاتحاد القومي» و «الاتحاد الاشتراكي العربي» و «حزب مصر العربي الاشتراكي» وهي التنظيمات التي نشأت تباعاً عقب ثورة تموز (يوليو) 1952، وهو حال يشبه ما عليه سورية الآن، والعراق أيام حكم صدام حسين.
3 - أزمة شرعية: فالنظام المصري كان في حاجة ماسة إلى تجديد شرعيته، فالشرعية الثورية تراجعت بفعل الارتداد عن توجهات حركة ضباط تموز (يوليو)، وليس هناك فرصة لبناء شرعية تقوم على الإنجاز في ظل الضعف الهيكلي الذي أصاب مصر في العقود الأخيرة، وعجز الحكومة عن إيجاد حلول حقيقية للمشاكل المتراكمة. والشرعية التقليدية مفتقدة بالطبع في نظام جمهوري لا يستند إلى نسب أو عائلة، ومن ثم لم يكن أمام النظام من سبيل سوى بناء «شرعية دستورية» عبر إجراءات سياسية إصلاحية تجذب إليه الجماهير، وتقنعهم بما يدعيه من تبني «فكر جديد» ترعاه المجموعة المتحلقة حول جمال نجل الرئيس مبارك. لكن ما حدث في الانتخابات هو استمرار عزوف الجماهير عن المشاركة السياسية لعدم اقتناعها بالدعاية التي أطلقتها السلطة حول نزاهة الانتخابات.
وعلى رغم أن اللجنة العامة المشرفة على الانتخابات ذكرت أن نسبة المشاركة بلغت 35 في المئة ممن لهم حق التصويت وهم نحو أربعين مليون مصري فإن النسبة الحقيقية كما رصدها بعض مؤسسات المجتمع المدني المصري، التي سمح لها بمتابعة سريان عملية التصويت، أظهرت أن هذه النسبة لم تتعدَّ 10 في المئة.
وفي ظل ما هو معهود عن مبالغة السلطة دوماً في إعلان نسبة المشاركة في الانتخابات السابقة، سواء للمجالس البلدية أو البرلمان أو أيام الاستفتاء على رئيس الجمهورية الذي تحول إلى انتخاب في المرة الأخيرة، فإن الأقرب إلى الصدق هي النسبة التي أعلنها المجتمع المدني. ومعنى هذا أن نسبة من حضروا الانتخابات لا تزيد عن 4 ملايين مصري، قد يكون ثلاثة منهم صوتوا لمصلحة الحزب الوطني، وذلك إذا جمعنا الأصوات الحقيقية إلى جانب الأصوات التي تم تسويدها عنوة، وهذا رقم هزيل قياساً إلى بلد يربو عدد سكانه على 80 مليون نسمة.
وهذه الأزمات الثلاث حول الشرعية والصدقية والبنائية تجعل انتصار الحزب الحاكم الكاسح في الانتخابات بلا معنى حقيقي، لا سيما أن الفائزين موزعين من الناحية العملية على تيارين أو جناحين بينهما صراع مكتوم، وهما الجناحان اللذان يحلو للكثيرين تسميتهما بـ «الحرس القديم» و«الحرس الجديد». ومن ثم بدت الانتخابات في حد ذاتها وكأنها معركة بين هذين الفريقين حيث حاول كل منهما أن يعزز وجود رجاله تحت قبة البرلمان، وهو المقصد الذي دفعهما إلى عمل شيء غير مسبوق في أية انتخابات على وجه الأرض، وهو «الدوائر المفتوحة» حيث رشح الحزب الحاكم أكثر من مرشح له على مقعد واحد في أغلب الدوائر الانتخابية.
في المقابل خسرت أحزاب المعارضة وجماعة «الإخوان المسلمين» في الجولة الأولى خسارة جارحة، بفعل التجاوزات والانتهاكات التي شابت العملية الانتخابية من ناحية، وبواقع الضعف البنيوي الذي تعاني منه هذه الأحزاب أصلاً، نتيجة حصارها الطويل بفعل القوانين الاستثنائية وحرمانها من الموارد المتنوعة التي يحظى بها الحزب الحاكم، ومنها الهيمنة على الجهاز البيروقراطي، والسيطرة على جهاز الأمن، وامتلاك القدرات الاقتصادية للدولة المصرية وتـــوظيفها في خــدمة الحزب ومرشحيه. لكن خسارة أحزاب المعارضة تسير في اتجاه مناقض لما كـــان يريده الحزب الحاكم. فالأخير كان يعتقد أن خسارة منــافسيه ستصب بالضرورة في مصلحته، وتضيف إلى رصيده السياسي والاجتماعي، لكن ما حدث هو العكس تماماً. فانســحاب «الــوفد» و«الإخوان» من خوض الجولة الثانية من الانتخابات أكسبهما تعاطفاً شعبياً طالما بحثا عنه وحرصا عليه، لأن هذه الخطوة وافقت إرادة وموقف التيار الوطني العام، الذي تعامل مع الانتخابات بفتور شديد، ويزداد غبنه من أداء حكومة الحزب الوطني بمرور الأيام.
كما تدفع هذه الخسارة بعض الأحزاب المتعاونة مع السلطة، الراضية بتمثيل دور الديكور، إلى الانفجار، الذي قد يؤدي إلى إزاحة قيادات حزبية معارضة بينها وبين الحزب الحاكم علاقات منافع ومصالح، وتدفع إلى الواجهة قيادات جديدة، تؤمن بأن أحزاب المعارضة يجب ألا تكتفي بالهامش المرسوم لها سلفاً من السلطة، وعليها أن تتمرد على الوضع المزري الذي تعيشه على مدار ثلاثة عقود، وتبدأ في رص صفوفها وترميم شروخها ورتق خروقها ومناطحة الحزب الحاكم. لهذا كله تحول أحزاب المعارضة خسارتها الفادحة إلى مكسب، بينما يجد الحزب الوطني الديموقراطي الحاكم نفسه، على رغم اكتساحه الانتخابات، نفسه يخسر تدريجاً، ويجهز بيده على النظام شبه التوافقي الذي بناه وعاش في كنفه، يحكم الشعب، ويأمر أحزاب المعارضة فتطيع.
* كاتب مصري
|