الثلاثاء, 07 ديسيمبر 2010 محمد الحدّاد *
يبدو أننا أفرطنا في التفاؤل عندما توقّعنا سقوط الأيديولوجيات مع سقوط حائط برلين عام 1989. أجل، سقطت الأيديولوجيات الكبرى التي هيمنت في القرن العشرين، وبخاصة منها القومية والماركسية، لكنها استبدلت بأخرى.
كانت القومية قد انتشرت في المنطقة العربية في ثلاثة أشكال: شكل قطري نشأ مع حركات التحرر الوطني وسعى إلى بناء الدولة الحديثة في الحدود التي تركها الاستعمار، وشكل إقليمي سعى إلى مراجعة التقسيمات الاستعمارية بإحياء تجمعات عرقية أو تاريخية قديمة، وشكل وحدوي جعل القومية مماهية للعروبة كلها. ولئن كان الشكل الأول هو الوحيد الذي نجح فعلياً، فإن الأشكال الثلاثة تشترك في كونها قد فرضت في الغالب على المجموعات المختلفة أن تنصهر في المجموعة الغالبة أو المجموعة المسيطرة، مع اختلاف في درجات القسرية تصاعدت بتصاعد السقف المحدد للوحدة، ما جعل التعبير عن قضايا الأقليات ينفجر بقوة عندما ضعفت الأيديولوجيا القومية بوصفاتها الثلاث. ذلك أن الفكرة القومية قد اقتبست من التجارب الأوروبية دون المواطنة التي تمثل فيها عنصراً محدداً، فالتجارب الأوروبية قد عوضت عن كسر الولاءات التقليدية للأفراد بمنحهم الحرية والمساواة والمشاركة الفاعلة في الشأن العام، ما يسّر عملية انصهارهم الفردي في الوطن وأضعف حنينهم إلى الولاءات القديمة. ولم يحدث مثل هذا في التجارب العربية المتعددة.
كذلك انتشرت المشاريع اليسارية ذات الخلفية الماركسية في المنطقة العربية من دون العنصر الأهم وهو التصنيع الذي يؤدي إلى انصهار المجموعات البشرية في المدن الكبرى، كما حصل في روسيا ثم الصين وبعض البلدان الآسيوية، ومن هذه التجارب التاريخية اقتبست الأيديولوجيا اليسارية العربية الفكر من دون التطبيق. فبقيت هذه الأيديولوجيا حكراً على النخبة الممثلة للسلطة بالمعنيين، السلطة السياسية والسلطة الفكرية، وجاء انهيارها سريعاً مع انهيار الكتلة الشرقية، من دون أن تحقق لمجتمعاتها ما كانت حققته الأنظمة الشيوعية، أي التصنيع الذي سمح للكثير من البلدان الشيوعية سابقاً بأن تبقى فاعلة اليوم، بل قوية وواعدة أحياناً، وإن فقدت غطاءها الأيديولوجي القديم.
يبدو أن سوق الأيديولوجيا المعاصرة بعد انهيار حائط برلين قد استبدلت هاتين المنظومتين الأيديولوجيتين بأخريين، أولاهما التكتل الطائفي بديلاً عن الأحلام القومية الجامعة وثانيتهما الليبرالية منتزعاً عنها قاعدتها الأساسية أي الحرية. استبدلت الأيديولوجيا القومية التي تقوم على صهر المجموعات المتباينة في وحدة قسرية بمشاريع تجزئة تقوم على التضخيم في الاختلاف بين المجموعات ودفعها إلى الصدام. وليست الديموقراطية بأقرب منالاً في هذا المنوال الطائفي مما كانت عليه في المنوال القومي. فلئن كانت الديموقراطية مشروطة في المنوال القومي بأن تمنح السيادة للمواطنين ليحافظوا على الوحدة القومية حماية لحرياتهم الشخصية، فإن إقامة وفاق بين الطوائف يمكن أن يمثل خطوة أولى نحو البناء الديموقراطي، إذا ما كانت الحدود الطائفية مناسبة للتقسيمات الجغرافية للأوطان وليست فائضة عنها. وفي غياب هذا الشرط يصبح الانتماء الطائفي مقدماً على الانتماء الوطني وتضمحل قيمة الديموقراطية التي لا يمكن أن تتحقق من دون وطن معترف بحدوده وبكامل تركيبته السكانية وبكل تضاريسه الجغرافية والثقافية.
وكذلك اقتبست الأيديولوجيا السائدة حالياً من الليبرالية وجهاً واحداً هو تقليصها جهازَ الدولة والقطاع العام، وكان يراد في التجارب الليبرالية التاريخية أن يكون هذا التقليص فرصة لبروز المبادرات الفردية، لكنه في ظل التجارب العربية كثيراً ما يؤول إلى تراجع فكرة الانتماء الوطني، وقد كانت المقابل الذي يبذله الفرد لقاء ما يتمتع به من خدمات عامة وما يشعر به من بعض الاطمئنان في ظل الدولة الراعية. ومن هنا جاء اللقاء سهلاً بين المنزع الطائفي والتجديد الليبرالي، فما كان على الطائفة إلا أن تأخذ الفضاء الذي انسحبت عنه الدولة القومية تحت ضغط العولمة.
وإلى جانب التغير في المضمون فإن ما يميز عالم ما بعد 1989 تحولات الأشكال الأيديولوجية. فأيديولوجيات اليوم لم تعد بناءات نظرية ضخمة، وإنما هي مجموعة من الأفكار الصغيرة الواضحة القابلة للانتشار السريع والتلقائي، ولم تعد قائمة على التنظيمات الحزبية الجماهيرية وإنما تروجها جماعات الضغط التي تتقن اعتماد طرق التسويق المستعملة في الإشهار التجاري أو تقنيات الفرجة المستمدة من فنون المسرح والسينما. وتمثل المنطقة الناطقة بالعربية مجالاً لتنافس شديد بين التقنيات التسويقية، فهي منطقة حساسة لثلاثة اعتبارات: إنها مخزون ضخم للنفط وهو عصب الصناعة، ومشترٍ أساسي للأسلحة وهي مورد مالي ضروري للبلدان المتقدمة، وموطن الدولة العبرية التي تؤمن البلدان الكبرى بأنها مسؤولة تاريخياً على أمنها. فمن الطبيعي أن يكون التنافس شرساً عليها، وهو يدور حالياً بين مشروعين، مشروع الثورة اليمينية الأميركية التي تطمح إلى أن تكون كونية، وقد تحولت إلى لاعب رئيسي في السياسة الأميركية منذ عهد الرئيس ريغن، وانتشرت قيمها في أوروبا بقوة بعد تفجيرات 2001، وتسعى إلى إعادة بناء المنطقة الشرق أوسطية على مقاس قيمها ومصالحها وأصبح لها من الأيديولوجيين المحليين أنصار ومنافحون، ومشروع الثورة الإيرانية التي تطمح أن تتصدر إقليمياً، وقد أصبحت اللاعب الأقوى في المنطقة بعد سقوط العراق، وستزداد قوة مع تفاقم الفشل الغربي في أفغانستان، وقد حولت «ولاية الفقيه» إلى ولاية عامة مفروضة على كل من لا يرضى بالمشروع السابق.
الخلاصة أن الأيديولوجيات لا تنهار، فهي تعبير عن مصالح، والتاريخ صراع مصالح. نحن نحتاج إذاً، إلى بعض الأفكار القوية بديلاً عن هذا التنافس المحتدم على رؤوسنا والذي لن يخدم مصالحنا سواء انتصر فيه الطرف الأول أم الثاني. أتمنى تنظيم مؤتمر عربي ضخم عنوانه: عشرون فكرة لإنقاذ العالم العربي، على أن يلتزم عشرون مشاركاً فيه بألا يعرضوا دروساً في الأيديولوجيات القديمة وإنما يتقدم كل منهم بفكرة مبدعة تساهم في «حلحلة» الوضع الراهن. إن الفراغ الأيديولوجي الحالي، وقد ساهمنا فيه بنقدنا الأيدلوجيات السابقة، قد أصبح مطية لعمليات تلاعب بالعقول تمارسها الأيديولوجيات الجديدة في أشكالها الجديدة. علينا استعادة سلاح النقد في معركة من صنف آخر.
* كاتب تونسي
|