دعا الزميل حازم صاغيّة في مقال له بعنوان «فرصة ثقافية
للسوريّين، وربما للعرب؟» (الحياة، 29/3/2014) إلى النظر في احتمال تغيير مركز الاهتمام من السياسي إلى
الثقافي، اعتباراً بمآل الوضع السوري الراهن. هذه الدعوة الجريئة، عندما تطرح في السياق الحالي، تستحق
ألاّ تمرّ مرور الكرام.
بداية، كنت أودّ أن أرى العنوان بالشكل التالي: فرصة
ثقافية للعرب، وربما للسوريّين؟ فالقضية واحدة وأسباب الفشل متقاربة، وإن كانت المسارات والنتائج
متباينة بتباين السياقات. أجل، تمثل الحالة السورية الحالة القصوى في الوحشية والدرامية، وقد حوّلت
جذريّاً مسار الثورات العربية، لكنّ خيبة الأمل مما كان يدعى الربيع العربي خيبة عامة، وهذا لا يمكن
إنكاره. فالجميع يعمل اليوم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من باب الواقعية لا من باب التفاؤل، ويغالب الشعور
بالحسرة من دون التغلب عليه.
وقد يحتوي قولي على كثير من الاستفزاز، لكنّني
أرى أنّ الثورات العربية لم تحقّق المطلوب لأنّها حصلت في مجتمعات ظلّ التحديث الثقافي فيها ضعيفاً،
فتحوّلت الثورات سريعاً إلى حروب داحس وغبراء وثأر العلويين والسنّة. وليس من المصادفة أنّ الثورة التي
سجّلت النسبة الأقلّ من الفشل وحافظت على بصيص من الأمل هي التي حصلت في البلد العربي الأكثر «تغرّباً»
والذي حكمه شخص مثل الحبيب بورقيبة ومنحت النساء فيه حقوقاً واسعة منذ الاستقلال، وأُلغي فيه التعليم
التقليدي واستبدل بتعليم حديث مجاني وإلزامي، حتى أنّ زعيم التيار الإسلاموي في هذا البلد كان أستاذ
فلسفة لا أستاذ عقيدة أو شريعة.
لكنّني لا استعمل هنا كلمة «تغرّب» إلاّ من
باب الاستفزاز، وإلاّ فإنّ نجاح الدعوة التي أطلقها الزميل صاغيّة لا يبدو لي ممكناً من دون التخلّي عن
عقدة الغرب والسجالات حول التغريب في مجتمعاتنا. فما نرفضه على أنّه «غرب» هو في الواقع مكتسبات إنسانية
كونية، من نوع حقوق الإنسان واحترام الذات البشرية والديموقراطية. وهذا هو السبب الثقافي في الفشل،
إضافة إلى الأسباب السياسية التي لا يمكن التقليل من أهميتها. فالثورات العربية كانت قابلة أن تقرأ منذ
البداية قراءتين:
- قراءة أولى «كونية» تربطها بمسار الديموقراطية الذي ابتدأ
مع الثورتين الأميركية والفرنسية ثم امتدّ بعد مؤتمر فيينا إلى أوروبا كلها، ثم إلى النصف غير الشيوعي
للمعمورة بعد الحرب العالمية الثانية، ثم إلى بلدان الكتلة الشرقية وأميركا الجنوبية بعد سقوط حائط
برلين،
- وقراءة ثانية «محلية» تربطها بصراعات الذاكرات والطوائف والمثل
الأعلى للجهــاد والنفير، التي تـــؤدّي حـــتماً إلى إدخال كلّ بلد في حروب داحـــس
والغبراء.
ففكرة الثورة المدنيّة التي أرسى مبادئها المهاتما غاندي ومارتن
لوثر كينغ ونيلسون مانديلا ظلّت بضاعة «غربية»، دخيلة ومرفوضة، في أعين الأكثرية من العرب، على رغم أنّ
هؤلاء الروّاد لم يكونوا غربيّين. بيد أنّ كلمة «غرب» عندنا إنما تستعمل لإدانة كلّ فكرة حديثة تنافس ما
ألفناه منذ قرون، وما فتئ يرمي بنا من هزيمة إلى هزيمة ومن خيبة إلى أخرى.
وقد
نشهد مستقبلاً عقدة الغرب تتغيّر من دون أن تختفي إذا قرأنا خيبات الثورات العربية من المنظور السوري
تحديداً. فعلى مدى النصف الثاني من القرن العشرين، عشنا على سرديّة الغرب الذي تدخّل لإجهاض ثوراتنا،
معلّقين عليه مسؤولية فشل الحكومات والسياسات التي ظهرت مع الموجة الثورية الأولى في الخمسينات
والستينات. ونخشى أن تنشأ اليوم سرديّة عكسية محورها إجهاض الغرب لثوراتنا بسبب عدم التدخّل (في سورية).
ومن حسن الحظّ أننا نعيش اليوم أزمة القرم لنرى أنّ أسباب عدم تدخّل الغرب في سورية هي من نوع أسباب عدم
تدخله في القرم، فلا يوجد غرب هلامي بل بلدان وحكومات وناخبون ومصالح. لماذا سيرمي الأميركيون
والأوروبيون بأبنائهم في حرب غير مضمونة في سورية أو في القرم؟ ولماذا سيخيّب أوباما آمال ناخبيه
ومواطنيه الذين صوّتوا له لأنهم ملّوا السياسات الحربية لسلفه بوش الابن؟ ولماذا ستضحي الاقتصادات
الغربية بالعودة المتردّدة للانتعاش الاقتصادي وتقضي على مئات الآلاف بالبقاء في البطالة والفقر من أجل
عيون الآخرين؟ ولو تدخّل الغرب في سورية لسقط النظام من دون أن تنشأ الديموقراطية في البلد، كما حصل في
العراق (ويحصل اليوم في ليبيا)، فنحمّله مسؤولية الدمار كما نفعل اليوم عندما نتحدث عن
العراق.
إنّ من أوهم نفسه أو أوهم شعبه بأنّ الغرب يمكن أن يتدخّل تدخّلاً
عسكريّاً مباشراً، وأنّ الحالة السورية قابلة لأن تُحسَم على مثال الحالة الليبية (مع الاختلاف النوعي
بينهما)، هو الجدير اليوم بأن يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه التاريخ.
ويترتّب على
تقليص عقدة الغرب ضرورة التشديد على المسؤولية الذاتية في مصائب الحاضر والماضي. «لقد افتضحنا» (استعمل
عبارة قالها لي حازم في محادثة خاصة) لأنّ الثورات العربية أثبتت أنّ العنف والوحشيّة والأنانية وقصر
النظر وقلّة الإيمان بالوطن والارتماء في أحضان الخارج والميل إلى الحلول السريعة وضعف التفكير
الاستراتيجي...، لم تكن سمات بعض الحاكمين ولا أثراً من آثار نقص الحريّات العامة، بل هي سمات راسخة لدى
قطاعات واسعة من الناس، وهي جزء من الثقافة العميقة لجزء معتبر من المحكومين وربما من
الغالبية.
أمّا الآن وقد افتضحنا، فلا بدّ أن نعمل لتغيير الأمور من العمق وأن
نقبل بمراجعة ثقافية عميقة، مراجعة تخاض في خضم النضال السياسي اليومي لكنّها لا تقلّ أهمية عن ذلك
النضال.
|