قبل حوالى عقدين، مع شيوع مقولات المجتمع المدني في أوساط النخبة السورية، ظهرت إلى العلن انتقادات «خجولة» لنظام «البعث» بصفته تركيبة ريفية أدت إلى إغراق المدن السورية بالريفيين على نحو اعتباطي كثيف، ما أدى إلى عجز المدن عن أداء دورها التمديني، فجاءت النتيجة مخالفة لسياق التطور الاعتيادي إذ جرى ترييف المدن بدل تمدين الريف. لم تلقَ تلك المقولات رواجاً كبيراً حتى ضمن النخبة نفسها، في دلالة على حساسية الفرز بين الريف والمدينة، خصوصاً مع الاعتقاد الرائج الخاطئ لدى بعضهم بأن المدينة السورية كانت أصلاً ذات صبغة طائفية غالبة تُنسب إلى السنّة، فهنا تفوقت الرمزية الشائعة على الواقع الذي يقول إن ثلاثة أرباع السوريين بمكوناتهم كافة كانوا لدى حصول انقلاب «البعث» ريفيين.
كان غزو أبناء الريف المدن الجزء الظاهر والملموس فقط من الآلية التي اعتمدها انقلاب «البعث»، وهي آلية متكاملة عمادها الانقضاض على السياسة والمشروع الوطني الناشئين، وكان الانقضاض على المدينة وسيلة لتحقيق أهدافها. الطبقة المدينية لم تكن مستهدفة لثرائها أو رخائها النسبي، إلا على مستوى الأيديولوجيا اليسارية المؤججة لنقمة الجموع، أما استهدافها من الضباط البعثيين، فلأنها كانت الطبقة التي تقود العملية السياسية في البلاد، مع مشاركة هامشية من زعامات ووجاهات عشائرية ريفية، الأخيرة لم تتأذَّ من الانقلاب وبقيت مشاركتها في السلطة على ما هي عليه.
بتجريمه المستمر للسياسة، حرم النظام المدينة من أهم وظائفها المعاصرة من حيث هي ميدان الممارسة السياسية المتكاملة، وأيضاً لجهة وظيفتها في تحقيق الاندماج الوطني الذي لا يتم إلا بالسياسة. لذا، لم يكن مفاجئاً تشبث النظام بالسيطرة على المدن منذ بدء الثورة، وتركيز إعلامه وأبواقه على سيطرته تلك للإيحاء هذه المرة بتفاضل طبقي بينه وبين الثورة، على رغم أن المدينة التي يباهي بالسيطرة عليها هي مدينة منزوعة الوظائف. الغاية الأساسية من إحكام السيطرة على المدينة هي منع الثورة من أن يصبح لها فضاء مديني، أي فضاء سياسي ووطني عام، فالنظام بحكم طبيعته يدرك عجز الأرياف بعصبياتها وتشتتها عن صوغ فضاء وطني عام.
على رغم حصاره المستمر، كان لا بد لشيء من التمدين الطبيعي أن يحصل. فالارتحالات السكانية الكثيفة لن تكون بلا أثر على صعيد التفاعل والاندماج العامَّيْن، الأمر الذي لمسه النظام مع انطلاق التظاهرات الكبرى في مدن حماة وحمص ودرعا ودير الزور. لذا، كان مطلوباً بشدة تفريق تلك الجموع، وإن اقتضى ذلك تدمير المدينة برمتها، أو إبادة الجموع بأكملها. أدى القمع الوحشي إلى تقوقع الثورة في أحياء متجانسة من بعض المدن، وأدى أيضاً إلى حركة نزوح كثيفة معاكسة باتجاه الأرياف بحثاً عن الأمان، حيث لم تزل نسبة كبيرة من سكان المدن تحتفظ بصلاتها أو ملكياتها الريفية.
في موازاة ذلك، بعيداً من القبضة الأمنية والعسكرية للسلطة، وجدت الكتائب المقاتلة أرضية أفضل في الأرياف، خصوصاً من المقاتلين المحليين الذين يحظون برعاية وحماية من بيئتهم الاجتماعية. غير أن هذه الميزة القتالية كان لها أثر سلبي كبير على صعيد تشتت الجهد القتالي العام، وفشلت المحاولات الكثيرة لتوحيد الكتائب تحت سلطة عسكرية محترفة واحدة، كما فشلت محاولات توحيدها تحت مظلة سياسية واحدة، بمعنى ما تَغلَّب الريف على المدينة، إذ امتنع عن السياسة والوطنية فعلاً، على رغم التغني بهما قولاً.
وعمد النظام إلى تعميم مفهوم الحماية الذاتية للمناطق المؤيدة من خلال ما سمّي أولاً «اللجان الشعبية» ثم «جيش الدفاع الوطني»، اللجان الشعبية تعتمد على أبناء الحي نفسه في المدن وأبناء الأرياف في مناطقهم، وبمعزل عن وجود قيادة موحدة لها على مستوى البلاد، إلا أنها تقوم أصلاً على شدّ العصب المناطقي أو الطائفي. أعمال القتل والنهب التي ارتكبها عناصر اللجان الشعبية تجاه الأحياء، أو القرى المجاورة تدل على انعدام تام لديهم للأفق الوطني، الآن ومستقبلاً، وإذ تزرع الحقد والرغبة في الانتقام لدى الطرف الآخر، فإنها تشير إلى انقسام يصعب ردمه في المدى المنظور.
حرب النظام على المدينة لم تبقَ بلا انعكاسات نظرية، فنتائجها أدت إلى شيوع تحليلات عن الثورة بصفتها ثورة محرومين، أو بصفتها ثورة أرياف. تحليلات تتناسى أن الثورة انطلقت أصلاً من المدن، ثم أُجبرت على النزوح منها، وهي إذ تفعل هذا تُغلِّب العامل الاقتصادي المشفوع بغنائية يسارية على العوامل المركبة التي تسببت بالثورة. إنها تتناسى شعارات الثورة التي استهدفت أصلاً تحرير السياسة والوطنية من براثن النظام، وعندما تهمّش المغزى الكلي لها فهي تقوم بترييف الثورة على الصعيد العام بعد ترييفها القسري مكانياً.
لذلك، إيجاد أطر تنظيمية موحدة تتمتع بمقدار من اللامركزية ليس هدفاً من أجل إسقاط النظام فقط، بل هو دلالة على عودة الثورة إلى فضائها المديني والوطني الذي انطلقت منه. الإعلاء من شأن الريفية بناء على مساهمة الأرياف في الثورة، ووقوع بعض الناشطين في فخ دعاية النظام ونقمتهم على الطبقة «المدينية المتخاذلة»، يصبّان في مصلحة النظام لجهة الإجهاز على الأفق السياسي والوطني للثورة.
إننا نغالي إذا افترضنا إدراكاً تاماً لدى النظام لكل ما يترتب على إجراءاته القمعية، فالهمّ الأول له كان خلال الثورة تفتيت الاجتماع السوري بمختلف أشكاله، حتى الحواجز العسكرية المنتشرة بكثافة لا وظيفة أمنية لها تضاهي عرقلتها الحركة والعبور بين المدن والحركة ضمن المدينة ذاتها، وربما أتت نتيجة هذه الإجراءات بأعلى من توقعاته. هي المرة الثانية التي يقوم فيها بترييف سورية بعد انقلاب آذار (مارس) 1963، وهي بالطبع أشمل وأقسى وأدهى من سابقتها. التسليم بالنتائج يعني الإقرار له كضامن قسري للاجتماع السوري. الإعلاء من شأن الريفية معزوفة بعثية ينبغي ألا تتسلل إلى أدبيات الثورة، فالريفية قد تكون ممتعة ومصدر الاسترخاء في الأغنيات التي تتمحور حولها، لكن تحكّمها بالسياسة كان كارثياً على الدوام.
|