الأربعاء ٢٠ - ٨ - ٢٠٢٥
 
التاريخ: شباط ٢٧, ٢٠١٤
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
من بلاد الثورة إلى مجتمعات المخاطر!- السيد يسين
حين قامت ثورات الربيع العربي بدايةً في تونس الخضراء، والتي لحقتها مصر بعد أسابيع قليلة، وسرعان ما لحقت ليبيا بالركب من خلال صراع دموي حاد لم تشهده كل من تونس ومصر، ظننا أن كل ثورة من هذه الثورات إنما هي ثورة سياسية في المقام الأول.

نعني بالثورة السياسية أن الهدف الأساسي لهذه الثورات جميعاً هو الانقلاب الجماهيري ضد النظام الاستبدادي القديم، شمولياً كان أو سلطوياً، للقضاء على الاحتكار السياسي واستئصال شأفة الفساد الذي نخر في بنية المجتمع، وإنهاء عهد المظالم الاجتماعية التي عانت منها جماهير المواطنين في البلاد الثلاثة التي شهدت هذه الثورات.
 
غير أنه تبين أن الثورة السياسية التي تهدف إلى اقتلاع جذور النظام الاستبدادي القديم، لابد لها أن تتقدم إلى الأمام وتحاول تأسيس نظام ديموقراطي يقوم على أساس التعددية، وينهض في ضوء مبادئ سيادة القانون من ناحية، واحترام المواطنة من ناحية أخرى.

وعلى أرض الواقع، لاحظنا أن جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر – على عكس حزب "النهضة"- آثرت أن تسعى إلى الهيمنة الكاملة على مجمل الفضاء السياسي المصري، وهو ما أدى إلى تعثر شديد في التحول الديموقراطي وإنجاز أهداف الثورة؛ مما جعل المسار الديموقراطي غير محدد الملامح والاتجاهات. استمر هذا الوضع عاماً كاملاً هو الذي استغرقه حكم جماعة الإخوان المسلمين إلى أن قام الشعب بانقلابه ضدها في 30 حزيران وأيدته القوات المسلحة.

غير أننا لو تأملنا الموضوع ملياً لأدركنا أن التعريف التقليدي للثورة قاصر قصوراً شديداً؛ لأنه ركز فقط على البعد السياسي المتعلق بالقضاء على النظام القديم، ولم يتطرق إلى جوهر أي ثورة حقيقية، وهو أن يكون لها توجهات فكرية وثقافية جذرية تقطع قطعاً واضحاً مع الممارسات السابقة، وتشكل بداية جديدة للمجتمعات التي وقعت فيها هذه الانتفاضات الجماهيرية. وقد يكون مرجعنا في هذه التساؤلات المهمة الخبرة التاريخية للمجتمعات الديموقراطية الغربية، التي لم تنجح في أن تقطع مع المجتمع الإقطاعي إلا بعد أن أرست دعائم المجتمع الصناعي، في ظل مشروع حضاري متكامل هو الذي يشار إليه عادة باسم "الحداثة".

والسؤال هنا: هل نجحت الانتفاضات الجماهيرية في كل من تونس ومصر وليبيا في التأسيس لمجتمعات جديدة قادرة على أن تحقق أهداف الثورة أم أن هناك عقبات تقف عثرة في تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي؟

ربما أكبر أسباب هذا التعثر أن هذه "الثورات" التي اندلعت في كل من تونس ومصر وليبيا كانت بغير قيادة، ولكن أخطر من ذلك أنها كانت بغير أيديولوجيا، بمعنى نظرية متكاملة تحدد أهداف مجتمع ما بعد الثورة وطرق تحقيقها بوسائل محددة.

غير أننا لو تجاوزنا موقتاً هذه العقبات، وهي أحد الأسباب الحقيقية للتعثر فإن أخطر منها جميعاً أن هذه المجتمعات تراكمت فيها المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بطريقة غير مسبوقة، وهذا التراكم يمكن أن يجعلها من مجتمعات "المخاطر".

و"مجتمع المخاطر" مفهوم نحته عالم الاجتماع الألماني إيرليش بك في كتابه "مجتمع الخطر" ويشير فيه الى أن جماع المخاطر المتعددة الصناعية والبيئية والصحية تشكل ما يطلق عليه "مجتمع المخاطر العالمي". ويرد السبب في نشوء هذا المجتمع إلى تسارع التطورات التكنولوجية والتي تؤدي إلى ظهور أنواع جديدة من المخاطر على الإنسان أن يواجهها أو يتكيف معها.

غير أن الجديد في هذا الموضوع هو عدم الاقتصار على المخاطر البيئية، بل هي تشتمل كذلك على سلسلة من المتغيرات المترابطة في حياتنا الاجتماعية والمعاصرة. ومن أمثلة هذه المتغيرات – التي لوحظ وجودها على المستوى العالمي- التقلب في أنماط العمالة والاستخدام وتزايد الإحساس بانعدام الأمن الوظيفي وانحسار أثر العادات والتقاليد على الهوية الشخصية وتآكل أنماط العائلة التقليدية.

ويخلص بعض علماء الاجتماع إلى أن المخاطر تؤثر أيضاً في خيارات وقرارات أخرى، وخصوصاً العلاقة بين نظام التعليم واحتياجات السوق. بمعنى أن جيلاً كاملاً من المتعلمين تعليماً نظرياً قد لا يجدون لهم مكاناً في سوق العمل التي قد تتطلب في مرحلة تاريخية ما مهندسين أو اختصاصيين أو عمالاً مهرة. ومن هنا يصبح اختيار المسار التعليمي نفسه نوعاً من المخاطرة إن لم يضع المتعلم في اعتباره تحولات السوق واحتياجاتها إلى نمط تعليمي معين وخبرات عملية محددة.

غير أن هذه المشكلات التي أشرنا إليها والموجودة فعلاً في المجتمعات المتقدمة تعد هينة جداً إذا ما قورنت بالمشكلات المتفاقمة في مجتمع المخاطر العربي إن صح التعبير.

خذ مصر على سبيل المثال، وحاول أن تقرأ دلالة المؤشرات الكمية على الأوضاع السكانية والاقتصادية والتعليمية والبيئية. وصل عدد السكان أخيراً إلى 95 مليون مواطن بما يعنيه ذلك من مسؤولية الدولة في تدبير الأماكن المناسبة للأطفال والشباب في المدارس والجامعات بالإضافة إلى ضرورة تصميم برامج خاصة للرعاية الصحية، وسياسات فعالة للتشغيل لمواجهة موجات البطالة المرتفعة وخصوصاً بين الشباب.

ولو نظرنا الى المؤشرات الاقتصادية سنجد أنه لا يقل عن 26 مليون مصري يقعون تحت خط الفقر، بكل ما يعنيه ذلك من دلالات خطيرة. أما في ما يتعلق بالتعليم فلدينا معدل أمية يصل الى 40% من السكان وهذا وحده كارثة بكل المقاييس، وله انعكاساته السلبية الخطيرة على تدني الوعي الاجتماعي، مما سمح بغزو الأفكار الدينية المتطرفة لعقول هؤلاء والتي صاغت ما يمكن تسميته "العقل التقليدي" الذي يسهل التأثير عليه ليصبح "عقلاً إرهابياً" لا يرى صاحبه غضاضة في القيام بالتفجيرات التي يقع العشرات ضحاياها، أو الاغتيالات وكل صور الترويع الوحشية.

وتبقى المخاطر البيئية والتي تتمثل في انتشار العشوائيات التي يعيش فيها عشرات الملايين من المواطنين المحرومين من أبسط الخدمات الإنسانية، في الوقت الذي نعيش فيه "شعب آخر" في المنتجعات الزاخرة بالفيلات والقصور التي يمارس سكانها حياة لا علاقة لها البتة بحياة عشرات الملايين من أعضاء الطبقات الفقيرة والمتوسطة. بعبارة موجزة هناك في بنية المجتمعات العربية التي قامت فيها ثورات عوامل تؤدي بالضرورة إلى عدم الاستقرار السياسي نتيجة تصاعد التظاهرات المطلبية والاحتجاجات الجماهيرية، بالإضافة إلى التظاهرات السياسية الفوضوية التي تقوم بها جماعات شتى.

بعبارة موجزة فإن خريطة الطريق الديموقراطية سواء في تونس أو في مصر والتي تتمثل أساساً في وضع دستور توافقي جديد وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية شفافة لن تحل المشكلات المعوِّقة في بنية المجتمعات المعاصرة. ولا يكفي في الواقع الشعار الذي رفعه خبير استراتيجي أميركي معروف موجهاً خطابه الى الحكام العرب "واجهوا أكثر مشكلات المواطنين حدة والتمسوا لها الحلول بكفاءة".

لأن الشعار السائد الآن في عصر العولمة -للأسف الشديد- أصبح هناك "مشكلات لا حل لها" والذي حل محل الشعار الذي ساد طوال القرن العشرين وهو "لكل مشكلة حل"!



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
منظمة حقوقية مصرية تنتقد مشروع قانون لفصل الموظفين
مصر: النيابة العامة تحسم مصير «قضية فيرمونت»
تباينات «الإخوان» تتزايد مع قرب زيارة وفد تركي لمصر
الأمن المصري يرفض «ادعاءات» بشأن الاعتداء على مسجونين
السيسي يوجه بدعم المرأة وتسريع «منع زواج الأطفال»
مقالات ذات صلة
البرلمان المصري يناقش اليوم لائحة «الشيوخ» تمهيداً لإقرارها
العمران وجغرافيا الديني والسياسي - مأمون فندي
دلالات التحاق الضباط السابقين بالتنظيمات الإرهابية المصرية - بشير عبدالفتاح
مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان
تحليل: هل تتخلّى تركيا عن "الإخوان المسلمين"؟
حقوق النشر ٢٠٢٥ . جميع الحقوق محفوظة