الأحد, 05 ديسيمبر 2010 خالد الدخيل *
من بين أخطر ما يمكن أن تقترفه الطبقة الحاكمة في حق نفسها، وحق الدولة التي تتربع على سدتها، أن تسن قانوناً لتداول السلطة، ثم تتجاهله، أو تحيله إلى مجرد صورة قانونية مفرغة من مضامينها وضوابطها القانونية، أو تكون أول من ينتهكه لتفقده هيبته، وإلزاميته للجميع. قانون الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية مثال على ذلك. في العالم العربي أصبح من المعروف والشائع الآن أن الانتخابات الرئاسية هي في ظاهرها لتأمين التداول السلمي والديموقراطي للسلطة. في حين أنها في حقيقتها وفي نتائجها النهائية ليست أكثر من آليات سياسية لتأمين أن يخلف الرئيس نفسه مرة بعد أخرى. وهو ما يحدث في كل الجمهوريات العربية تقريباً. الانتخابات البرلمانية هي الأخرى آلية سياسية يفترض أن تخضع لقانون ينظم التداول السلمي لسلطة المؤسسة التشريعية للدولة. لكنها ليست كذلك في العالم العربي أيضاً. وهو ما يقودنا مباشرة إلى الانتخابات «البرلمانية» في مصر التي انتهت دورتها الأولى الأحد الماضي، وتبدأ دورتها الثانية اليوم.
مهما تكن الزاوية التي يمكن النظر من خلالها إلى هذه الانتخابات، ونتيجة دورتها الأولى، فإنه لا يمكن تفادي ما أصبح واضحاً لكل مراقب، وهو أنها لم تكن في مجرياتها ولا في نتائجها انتخابات حقيقية احتكمت إلى قانون، والتزمت بالحد الأدنى من الشفافية والعدالة مع كل المرشحين، وقبل ذلك مع الناخب، أو المواطن المصري، وحقه في أن ينتخب من يرى أنه يمثله بعيداً عن إكراهات السلطة وإغراءات المال. امتلأت أخبار هذه الانتخابات بالكثير من أنواع التزوير، والعنف، والتلاعب بأصوات الناخبين. وبغض النظر عن دقة وحجم هذه التجاوزات، فإن هناك ثلاثة مؤشرات تؤكد أن الانتخابات لم تكن كما ينبغي لها أن تكون. فنسبة المشاركة في هذه الانتخابات كانت متدنية جداً. يقول البعض أنها لم تتجاوز 35 في المئة، وهي نسبة قياسية في تدنيها. المؤشر الآخر أن الحزب الحاكم فاز في الدورة الأولى بنسبة مرتفعة من مقاعد المجلس، تجاوزت 91 في المئة. وهذه نسبة تثير بذاتها الدهشة، وتطرح أكثر من سؤال حول الانتخابات، والطريقة التي أجريت بها. وهي نسبة تذكّر بنتائج الانتخابات الرئاسية العربية. وتزداد الدهشة أمام المؤشر الثالث، وهو أن الـ9 في المئة الباقية من مقاعد الدورة الأولى توزعت بين المعارضين والمستقلين، وأن الفئة الأخيرة تنتمي في الواقع الى الحزب الوطني الحاكم. لم يكن مفاجئاً أمام هذه النتيجة أن قرر كل من حزب الوفد وحزب التجمع والحزب الناصري، مقاطعة الدورة الثانية من الانتخابات، ما يعني أن الحزب الوطني الحاكم سوف يسيطر على البرلمان تماماً، ومن دون معارضة.
وعندما لا تكون هناك معارضة في المؤسسة التشريعية فهي تعني واحداً من اثنين لا ثالث لهما: إما أنه لم تكن هناك انتخابات، أو أن هذه الانتخابات صممت بطريقة لا تسمح إلا لمرشحي الحزب الحاكم باكتساحها من الدورة الأولى، وترك بعض المقاعد لمن ترشح من خارج هذا الحزب. كان من الواضح حتى قبل أن تبدأ الانتخابات بأن إبعاد جماعة «الإخوان» عن البرلمان، وعدم تكرار ما حققوه من نجاح في انتخابات 2006، هو الهدف. وهو ما تحقق بالفعل. ليس مهماً في هذا الإطار أن نتفق مع «الإخوان»، أو مع الخطاب الديني الذي يأخذون به. الأهم هو أن تحتفظ القوانين، وأن يحتفظ منطق الدولة بما يستحقه من احترام، وأن تكفل هذه القوانين حق المشاركة السياسية للجميع، ضمن حدود وضوابط القانون. وحقيقة أن الملاحقات الأمنية لـ «الإخوان» طوال السنوات الماضية لم تؤد إلى إضعافهم، ولم تساعد النظام السياسي على الاطمئنان إلى تأمين إنتخابات تتوفر على الحد الأدنى من النزاهة والشفافية، وهو مؤشر ليس في صالح الحزب الحاكم، ولا في صالح الدولة المصرية. وأمام ذلك يبرز السؤال: لماذا إذن كان هناك قانون انتخابات برلمانية، إذا كانت النية معقودة على أن نتيجة هذه الانتخابات ستكون دائماً معروفة سلفاً؟ ولماذا سنّ مثل هذا القانون ليتم في الأخير إضعافه وتهميشه مع الوقت؟ أليس من الواضح بداهة أن إضعاف قوانين الدولة ومؤسساتها هو إضعاف للدولة نفسها؟!
قبل الانتخابات كان قادة الحزب الوطني يردون على مخاوف البعض من تكرار العنف والتزوير، ومحاولات الحزب إقصاء المعارضين، وتقليص مشاركتهم إلى أصغر حد ممكن، بالقول بأن تغيراً استراتيجياً قد حصل في نظرة الحزب لنفسه، وللنظام السياسي في مصر بعد عام 2005. قبل هذا العام، يقول هؤلاء، صحيح أن سياسة الحزب لم تكن تتسع لفكرة التعددية الحزبية، وأنه كان بالفعل يعمل على الاستئثار بالسلطة. أما بعد عام 2005 فقد تخلى الحزب عن هذه الفكرة تماماً، وأصبحت قياداته على قناعة تامة بأن التعددية الحزبية هي لمصلحة الحزب، ومصلحة النظام السياسي في شكل عام. ثم جاءت نتائج الانتخابات الأخيرة لتضفي ظلالاً من الشك الكثيف حول هذه الطروحات. هل كان هؤلاء يحاولون تهيئة الرأي العام للنتائج المتوقعة؟ أم كانوا يحاولون تهدئة روع المعارضة قبل الانتخابات؟ توحي نتائج الانتخابات وكأن الحزب الحاكم قد عاد بالنظام السياسي إلى سبعينات القرن الماضي، أو مرحلة المنابر التي أطلقها الرئيس الراحل أنور السادات، والتي مهدت لمرحلة الأحزاب.
إذا كان القانون هو روح الدولة الذي يحركها، ويؤطر ممارساتها، فإنه لم يعد خافياً بأن من المخاطر البينة للممارسات التي تنتهك هذا القانون، وتقفز على حدوده وضوابطه، أن شرعية الدولة تتآكل مع الوقت في الداخل، وفي الخارج تضعف هذه الدولة، ويتراجع دورها حتى في الإقليم الذي تنتمي إليه. هذا من حيث المبدأ العام. أما من حيث الواقع العربي القائم حالياً، فإن الملاحظة التي تبرز في الحالة المصرية تحديداً، هي أن تراجع الدور المصري في المنطقة يكاد أن يتزامن تماماً مع تبني الآلية الانتخابية للرئاسة والبرلمان، مع عدم الالتزام بالمقتضيات القانونية لهذه الآلية. من ناحية أخرى، تبنت جمهوريات عربية أخرى، مثل ليبيا وسورية، لآلية انتخابية مشابهة، ومع انتهاكات وتجاوزات أكبر بكثير مما يحصل في مصر. هل كانت النتيجة بالنسبة الى معيار ضعف الدولة أو قوتها في الحالتين الليبية والسورية، كما كانت في الحالة المصرية؟ على السطح قد يبدو الأمر كذلك، لكن في العمق قد لا يكون الأمر كما يبدو عليه. في مصر هناك هامش واسع من حرية التعبير والحركة أمام المعارضة. لا وجود لهذا الهامش في سورية وليبيا، لأنه ببساطة ليست هناك معارضة في هاتين الدولتين، ولا يسمح بمثل هذه المعارضة أصلاً. والحقيقة أن في ليبيا وفي سورية هناك استفتاء تسيطر الأجهزة الأمنية للدولة على كل محطاته، والنتيجة النهائية التي تعلنها وزارة الداخلية هي الكلمة الفصل والنهائية حول الموضوع، حتى موعد الاستفتاء المقبل. من هنا ليست هناك في هاتين الدولتين مادة إخبارية احتجاجية يمكن تداولها. في الحالة المصرية، الأمر على العكس من ذلك.
تعكس هاتان الحالتان جزءاً مهماً عن الوضع السياسي العربي. فإذا كان الأمن في ليبيا وسورية، مثلاً، هو الإطار الذي تتحرك ضمن حدوده الصارمة عملية سياسية محدودة جداً، نجد أن المجال السياسي في مصر أوسع، لكن من دون الجرأة إلى حد الاستغناء عن اليد الأمنية لضمان عدم اندفاع المعارضة لتجاوز حدود هذا المجال السياسي. بعبارة أخرى، هناك حالة أمنية متجهمة تجعل أي هامش سياسي معقولاً، في مقابل حالة سياسية مترددة تجعل الوطأة الأمنية مقبولة. لكن إلى أي حد؟ هذا على الأرجح السبب الأكثر أهمية من غيره في أن الدولة العربية، إذا جازت تسميتها كذلك، أصبحت رهينة دورها الذي فرضته داخلياً على نفسها، ولا تستطيع تجاوزه أو تطويره. القيود التي تضعها الدولة على نفسها في الداخل نتيجة لجمودها السياسي والقانوني، تسببت في أن بقي دورها في السياسة الخارجية يفتقر للحيوية والحركة والتطور. وذلك انطلاقاً من القاعدة التي تقول بأن السياسة الخارجية للدولة هي بشكل أو بآخر امتداد لسياستها الداخلية. قارن في هذه الحالة المكتسبات السياسية الإسرائيلية، وهي دولة طارئة، استيطانية وغير طبيعية، على مدى نصف القرن الماضي، مع التراجعات السياسية الكبيرة للدول العربية، وهي دول طبيعية ولها امتداد تاريخي عميق. إلى أي حد يعكس تعامل الدولة مع قوانينها وأنظمتها حالتها السياسية، وثقلها السياسي على المستويين الإقليمي والدولي؟
* كاتب وأكاديمي سعودي
|