عمان - من عمر عساف
تسعون عاما إلا ستة أشهر عمر المملكة الهاشمية الأردنية التي نشأت في إقليم لم يكن يوما إلا صاخبا بالنزاعات والصراعات. تسعون عاما أراد خلالها الأردنيون أن ينتقلوا من 'الحكومات المحلية' إلى فضاء الأمة الأرحب، فجهدوا لتحقيق حلم الثورة العربية الكبرى بدولة عربية واحدة مترامية الأطراف. لكن الحلم اختزل لاحقا بفعل الاستعمار، إلى دولة الهلال الخصيب، فسوريا الكبرى، ويتضاءل الحلم إلى المملكة المؤلفة من ضفتي النهر، ليقتطع الاحتلال الضفة الغربية وتصير كيانا مشوها يشار إليه في الأدبيات السياسية بـ'السلطة الوطنية الفلسطينية'. انشغل الأردنيون في القرن الماضي بهمّين رئيسين: حلم الوحدة وقضية فلسطين، اللذين اشتبكوا فيهما اشتباكا مباشرا مع المخططات الصهيونية التي لم تكن تستثني الأردن بل تنظر إليه بصفة كونه حيويا لها ومخزنا لفائض الفلسطينيين على أرض فلسطين، للإبقاء على 'يهودية' الكيان. ربما كان هذان الهمّان هما اللذان جعلا الأردنيين يوسدون فراشهم للهاشميين الآتين من الحجاز، بما هم دعاة وحدة، وملّكوهم على بلادهم لتكون هذه الأرض هي الواصل بين حواضر الإقليم من بيروت وحماة ودمشق إلى مكة والمدينة ومن بغداد إلى القدس. ولكن، بعد تسعين سنة، يبدو الأمر أسوأ مما كان عام 1921، إذ تقوقعت الناس على نفسها، وخلعت عنها ثوب الدولة والمجتمع المدني، مستبدلة إياه بثوب العشيرة.
تراجع الدولة
يشير تقرير صدر الأسبوع الماضي عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي، وهو مجلس استشاري مرتبط برئيس الوزراء، إلى أن تغييرات مهمة طرأت في العقدين الأخيرين على وظائف الدولة الاقتصادية. اذ 'فرضت المتغيرات الاقتصادية، إعطاء القطاع الخاص دوراً متنامياً في النشاطات الإنتاجية والخدمية وايجاد فرص العمل'. غير أن السياسات الإقتصادية 'لم تنجح في تصحيح الاختلالات في توزيع الدخل القومي، الأمر الذي عمق الاستقطاب الاجتماعي، وأدى إلى تقلص الطبقة الوسطى التي تشكل قاعدة الاستقرار في المجتمع'. كما ولَّدَ تغير دور القطاع العام، الذي كان مشغلا رئيسياً للأيدي العاملة، إحساساً بـ'الابتعاد عن المؤسسات الرسمية لدى قطاع واسع من المواطنين'، وهو ما أثّر على انحسار الدور الاجتماعي للدولة الريعية التي هدفت من خلال سياسة التشغيل إلى تأمين ولاء المواطنين لها ودمجهم فيها وخلق مجتمع مدني حقيقي. ولكن مع تعقيدات دخول الكتلة الفلسطينية على معادلة الأرض والسكان في الأردن عقب نكسة حزيران 1967 واتساع نطاق حرب الاستنزاف، وحسم الصراع بين الدولة وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية عسكريا في مواجهات أيلول 1970 التي انتهت بخروجها إلى لبنان، تبدلت الأوراق، فتحولت الدولة من حاضن للمواطنين جميعا إلى حاضن لشرق الأردنيين على حساب إخوتهم من أصل فلسطيني، وبرز تيار غالب عمل على إقصاء الفلسطينيين من أجهزة الحكم وتوجههم إلى الاقتصاد. وساد تيار عمل على تعميق الشعور لدى شرق الأردنيين بأنهم في خطر الذوبان داخل مجتمع يغلب عليه الفلسطينيون الذين قد يسيطرون على المجتمع والدولة إذا لم توضع محددات عليهم. وكانت احدى أبرز أدوات الدولة في تعميق هذا الشعور اللعب على وتر العشائر وربطها وربط وجودها وبقائها وتكريس مصالحها بالنظام.
نواب وطن أم عشائر؟
ولعل أبرز تجليات الحيثيات السابقة يتمظهر في قانون الانتخابات النيابية الموقت، الذي لم تستطع خمسة مجالس نيابية منذ عودة الحياة البرلمانية (1989) جعله قانونا دائما يحظى بمصادقة البرلمان. ومنذ التحول عام 1993 إلى نظام الصوت الواحد (غير المتحول) رسخ هذا القانون العشائرية وعمل على إبرازها، على أمل الإبقاء على أكثرية شرق أردنية داخل البرلمان، وكذلك من خلال اللعب على تقسيم الدوائر الانتخابية. غير أن النظام في حمأة هذا التوجه نحو أردنة البرلمان، لم ينتبه إلى الأعراض الجانبية التي كان أبرزها تفسخ البنى الاجتماعية داخل الدولة، وتفسخ العشائر، لينتقل الأمر إلى تفسخ العشيرة الواحدة وتعاظم الاحتقانات والخلافات بين بطونها وأفخاذها. وصارت العشيرة، مع تردي الأوضاع الاقتصادية، المرجع الأول للناس ناخبين ومرشحين، لتتراجع مكانة الدولة ودورها أكثر فأكثر، فصارت العشيرة أولا بدل 'الأردن أولا'. بحيث نشرت في الصحف إعلانات تتضمن مصطلحات مثل 'الشرعية العشائرية' و'وحدة الصف' و'رأب الصدع' كانت حكرا على 'الأمة' أو الدولة. ويتفق تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي، الذي يرأسه وزير الخارجية السابق عبدالإله الخطيب، مع هذا التحليل، إذ يرى أن ازدياد الأوضاع الاقتصادية صعوبة، وضعف قنوات التعبير والتواصل، وتنامي اعتماد الواسطة والمحسوبية، أدت إلى 'تزايد دور الهويات الفرعية في حياة المجتمعات المحلية'. وهو ما جعل، وفق التقرير، فئات عدة 'تستعيض عن الأطر المدنية والسياسية في تحقيق طموحاتها السياسية والإجتماعية بالعودة الى الأطر التقليدية المعبرة عن تلك الهويات الفرعية'. واستغل البعض ذلك في استدعاء جديد أقرب إلى محاولة 'توظيف العشائرية لخدمة أغراضه الذاتية بما يسيء للعشيرة كوحدة إجتماعية أساسية ولدورها التاريخي الذي يعتز به الأردنيون بصفتها داعماً أساسياً للبناء الوطني ولسلطة الدولة واستقرار نظامها السياسي'. ومن الأعراض الجانبية كذلك بروز أصوات تشكو من 'الحقوق المنقوصة' للفلسطينيين، وتحديدا الحقوق السياسية، وهي دعوة وجدت لها صدى في الأوساط الفلسطينية، وصدى مضاداً عند بعض الشوفينيين الأردنيين، واختلطت أصواتهم بأصوات من يحذر من أخطار الوطن البديل وتصفية القضية الفلسطينية على حساب الأردن.
ما العمل؟
يعتقد محللون أن ثمة جدلية تحكم تفكير الأردنيين، مضمونها أنك إذا وجهت الناس نحو خط الوحدة وعمقت الشعور الجمعي لديهم، فسيتضاءل الشعور المتكىء على الجغرافيا، المنادي بالتجزئة والجهوية والاقليمية، والضد صحيح. ويرى هؤلاء أن تعميق حس المواطنة بناء على الحقوق والواجبات وتأكيد أن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة على كامل التراب الفلسطيني، وضرورة الاصطفاف أردنيا وفلسطينيا في وجه العدو الوحيد للأمة ، وهو الكيان الصهيوني، هو الخيار الوحيـــد أمام الأردنيين والفلسطينيين. وهو ما عبر عنه القيادي ورئيس الوزراء الأردني السابق أحمد عبيدات أمام اللجنة العربية للدفاع عن الثوابت الوطنية الفلسطينية في بيروت الشهر الماضي، بقوله إن الأردنيين لا يقبلون أقل من دولة فلسطينية على كامل التراب الفلسطيني من البحر إلى النهر. وهو موقف على رغم كل ما يمكن قوله عن طوباويته، إلا أنه يعبر بقوة عن موقف الأردنيين من القضية الفلسطينية بمجملها، ورفض لاتفاق السلام وما جلبه، ويحمل رسالة واضحة الى الأفرقاء الفلسطينيين بضرورة أن يتوحدوا. في الأثناء، يتساءل كثيرون عما يمكن أن تفرزه الانتخابات المزمعة بعد ثلاثة أسابيع في ظل اللامبالاة التي تسود الشارع الأردني وتوسع إطار حملة المقاطعة التي تقودها الحركة الإسلامية وأحزاب وهيئات وشخصيات وطنية وقومية ويسارية مطالبة بقانون ينتج مجلسا لنمو الأمة لا مجلس عشائر مفتتة.
|