كانت تلك المرّة الأولى التي يظهر فيها غير محتفل بنفسه. في المرّات الكثيرة التي سبقت، وحتى في الندوات "الفكريّة" التي كان يؤدّيها جالساً، وبينها تلك الأخيرة، أو ما قبل الأخيرة، التي قسّم سياسات العالم فيها إلى ألوان، كان يحرص على أن يحاط بحشود ضخمة من المؤيدّين. في ظهوره الأخير هذا لم يكن هناك حشد ولا مصفّقون. حتى أنّه لم يكن مرتقياً مكاناً مرتفعاً، منبراً أو شرفة على سبيل المثال. وبدل أن تكون المساحة من حوله متّسعة، كما ينبغي، للإيحاء باتساع سلطته، كان واقفاً في مساحة ضيّقة لمدخل بيت قليل الفخامة، مسدوداً بالحائط من إحدى جهتيه، كأنّما من أجل أن يحمي نفسه من رصاصة قد تصيبه. كما يدلّ أيضاً على ضيق تلك المساحة أنّ الكاميرا التي تصوّره لم توسع عدستها إلى الجانبين، بل كانت ترتفع عموديّاً إلى الأعلى، إلى الطابق الثاني لترينا آثار شظايا باقية على الجدران أحدثها هجوم الطائرات الأميركية على البيت. أما الجمهور فلم يتعدّ الثلاثة أشخاص أو الأربعة، إثنان منهم انحنيا لتقبيل يده عند انتهائه من إلقاء خطبته، تلك التي ختمها بخبط يده على الطاولة وبحركات أخرى من يديه بدا فيها كأنّه يعتزم حقّاً أن يبدأ على الفور ما سمّاه "زحفاً" على معارضيه. وقد كانت هذه الحركات خالية من الوجاهة بدورها، إذ بدا كأنّه يمثّلها تمثيلاً، أو أنّه بدا بها حانقاً حنق ولد لا حنق زعيم جماهيري له ألقاب كثيرة أخرى كان عدّد بعضها في خطبته الطويلة تلك.
وكان قد بدا هو، بشخصه وهندامه، قليل الاعتناء برفعته و"بالمجد" الذي يتمثّل عادة بهيئته وقامته وما يرتديه من ثياب. كأن فريق التصوير، القليل العدد كما يبدو، لم يُعطَ الوقت الكافي لتحديد نسبة الإضاءة وكيفيّة تسليطها. أمّا من جهته، هو القذّافي، فكان مرتدياً الثوب الذي سبق أن شوهد يرتديه مرّات كثيرة، فانهدلت تلك الانتفاخات القليلة التي تجعله دالاً على أناقة صاحبه وزهوه بها. ذلك الثوب، بالحال التي رأيناه فيها، لا يشبه بشيء تلك الأثواب التي عرفناها له، بينها تلك التي كان يرتديها في مؤتمرات القمم العربيّة والأفريقيّة وفي مؤتمرات عالميّة عدّة، كما من بينها ذلك الثوب العسكري الذي لاقى به صديقه سيلفيو برلسكوني حيث كانا يستعرضان معاً حرس الشرف في مطار واحدة من دولتيهما. كان ذلك الثوب، العسكري، كاملاً وتامّاً، بنياشينه وشاراته ونجماته ونياشينه وعصاه التي توضع تحت الإبط ويُمسَك طرفُها بيد مرتفعة دلالة على العظمة العسكرّية والامتثال لها في آن معاً. ونحن نشاهد هذه اللقطة، التي أعاد بثّها التلفزيون مرّات كثيرة في هذه الأيام الأخيرة، رحنا نفكّر أنّ برلسكوني، المكتفي من العظمة بما تتيحه من حرّية في ممارسة الفساد المالي والجنسي، كان يهزأ من مرافقه لشدّة أخذه الأمر بهذا القدر من الجدّية. وربّما كان حال الرؤساء في القمم وفي اجتماعات الدول شبيهاً بحال صاحبه الإيطالي، وإن كان قد أتيح لهؤلاء، بعد أن يتفرّقوا إثر أخذ الصورة الجامعة، أن ينكتّوا على طاقة الظهور المبالغة جدّاً التي يبذلها الرئيس الليبي لتأكيد عظمته في ما يرتديه.
ومن مظاهر تلك العظمة ارتفاعه بجسمه سنتمترات إضافيّة حتى ليبدو رأسه مرتدّاً قليلاً إلى الوراء، بما يبديه ناظراً من مكان مرتفع إلى الرؤساء من حوله. في خطبته مساء ذلك الثلاثاء يوم 22 شباط، لم يكن القذّافي على شيء من ذلك. كان وجهه متغضّناً ونحيلاً ومسودّ اللون كأنّ الإضاءة المتعجّلة تلك لم تزوّده بالنور الكافي. أما جسمه، باستثناء تلك الحركة المتعاظمة التي ردّ بها شال ثوبه إلى الخلف، مرّة واحدة، فبدا كأنّه فقد عدّة سنتمترات، وعدّة كيلوغرامات أيضاً، مما كان عليه حاله قبل يوم واحد، حين أطلّ لمدّة ثلث دقيقة على مصوّره، ليقول إنّه ما زال هنا في طرابلس وليس في فنزويلا.
كما أنّه خسر، في ذلك اليوم الواحد، بين يوم الثلاثاء ويوم الإثنين الذي سبقه، تلك الموهبة على التسلّي والمداعبة اللتين هما من مواهب البعض من الديكتاتوريين. كان مشهده العابر القصير في تلك السيّارة الصغيرة وإمساكه الشمسيّة وهو في داخلها، ثم إقفاله الشمسيّة لينهي ظهوره التلفزيوني بطريقة مبتكرة، آخر مشاهد الداعبة المستخِفّة التي يؤلّفها من يشعر بأنّه يستطيع أن يفعل ما يحلو له. ذاك أنّه، من زمن يردّه البعض إلى ثلاثة عقود خلت، بات لديه وقت فائض عن ذلك الذي يحتاجه لفرض سلطته على شعبه. بات، منذ ذلك الحين، "يتنعّم" بما هو فيه ويبالغ في تشكيل نفسه على صورة العظمة التي يحبّ.
في تلك الخطبة الأخيرة أهمل كلّ ما يتّصل بجانبه الاستعراضي. لقد حلّ وقت العمل بعد انتهاء الإجازة، وها هو يتخلّى عن منطقه الكلاميّ الخاص الذي من قبيله تصنيف قوى العالم وجغرافيّته بحسب ما توحي له الألوان؛ واختراع أسماء جديدة للشهور مستمدّة من درجة وقوع حرارتها على جسمه؛ وقوله، في سنة ما من الثمانينات، إنّه يجب إقفال المدارس لأنّها أقيمت لقمع التلاميذ، متّبعاً بذلك ما سمعه من أحدهم عن أنّ ميشال فوكو كتب ذلك في أحد كتبه؛ ثم دعوته البنات الإيطاليّات دون سنّ العشرين للتحوّل إلى الإسلام، وهذا ما كان طريقته السهلة في حلّ المسائل اللبنانيّة المستعصية: فليعلن المسيحيّون هناك أنّهم مسلمون فتنتفي المشكلة.
في يوم خطبته الأخيرة تلك بدا الزعيم وقد عاد إلى رشده، أقصد إلى أن يكون كلامه صادراً عن منطق معروف لا من تهويمات مثل التي قضى خورخي لويس بورخيس جزءاً من حياته يبحث في أنواعها. لقد عاد، في خطبته الطويلة تلك، إلى أن يكون ديكتاتوراً عاديّاً، يقول كلاماً مفهوماً ولا أثر فيه للمزاج الخاصّ. صحيح أنّه أكثر من الكلام عن المجد الذي تحقّق له لإيصال الليبيين إلى سدّته، ثمّ ليخفضهم بعد ذلك، هكذا دفعة واحدة، إلى مرتبة الجرذان والجراثيم، وصحيح أنّه لم يتذكّر شيئاً من بطولات الليبيين إلا ما فعله هو وما فعله والده من قبله وما فعله جدّه قبل ذلك، كما أنّه لم يجد أقوالاً يستشهد بها إلا تلك التي صدرت عن إبنه سيف الإسلام، لكنّه مع ذلك التزم المنطق المعروف حتى أيّامنا. هناك أخطاء رغم ذلك طبعاً، مثل دعوته الليبيين إلى مقاتلة الليبيين، لكنّ ذلك يعود إلى زمن ما قبل تمثّله المجد، حين دعا في سنوات الثمانينات تلك طلاب الجامعة إلى أن يقتصّوا بأنفسهم من زملائهم الذين حادوا عن تعاليم كان قد عدّدها في كتابه.
لقد عاد ديكتاتورياً سويّاً في تلك الخطبة، عنيفاً قاسياً قادراً على ارتكاب المجازر، لكن هكذا يمكن أن يكون الديكتاتور عادة. في هذا الفصل الأخير من حكمه، ومن وجوده ربّما، لم يعد يتّسع الوقت للتمثيل وتركيب الأفلام، على ما نقول هنا في لبنان. أكثر ما يمكن أن يفعله الآن هو قتل بضعة آلاف أخرى ثمّ لن يعود قادراً، في حال نجاته، على حكم بلده، بحسب ما يرى بعض المحلّلين. هنا على شاشة التلفزيون، ما زالوا يعيدون بثّ مقاطع من خطبته تلك، مرّة كلّ عشر دقائق. ورغم أنّه، بين فاصل وآخر، يكون قد قتل أعداداً من أعدائه، نظلّ نتساءل هل سينفّذ تهديده ذاك.
|