الثلثاء ٢٦ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: شباط ٢٧, ٢٠١١
المصدر: ملحق النهار الثقافي
 
دوّار الـلــؤلـــؤة - محمود الزيباوي
الحرية للعالم العربي: الجريمة والعقاب

اهتزّت مملكة البحرين بعد هبوب رياح التغيير من تونس الخضراء، إلى مصر، وصولا إلى اليمن وليبيا. سار البحرينيون على خطى المصريين، فجعلوا من دوّار اللؤلؤة في وسط العاصمة ميداناً للتحرير، ورفعوا أعلام وطنهم، وصبغوا وجوههم بألوانه. لكن مصر ليست البحرين، ومقارنة الدولة الكبيرة بالمملكة الصغيرة التي لا يتجاوز عدد سكانها المليون نسمة تقتصر على هذه المظاهر الخارجية. تحتضن البحرين اليوم مقر قيادة الأسطول الخامس الأميركي، وتشتهر بأبراجها ومبانيها الحديثة. تحجب هذه الصورة المعاصرة تاريخاً ثرياً وحضارة عريقة تمتد بجذورها إلى عصور قديمة، من عهد سومر، إلى العصور الإسلامية المتتابعة. على مدى قرون طويلة، شهدت هذه الجزيرة صراعاً دولياً تبدّل أبطاله بين حقبة وأخرى، وبدت بحسب أمين الريحاني "كأنها بارجة راسية في جون متسع بين قطر والقطيف، بل كأنها عند مهد اللؤلؤ جوهرة كبيرة، فلا عجب إذا تسابق إليها الفاتحون من قديم الزمان".   


تقع مملكة البحرين على الطرف الغربي من جنوب الخليج، وتحدّها المملكة العربية السعودية من الغرب، وإيران من الشرق والشمال، وشبه جزيرة قطر من الجنوب. تتكون من ثلاث وثلاثين جزيرة متقاربة تبلغ مساحتها مجتمعة أقل من سبعمئة كيلومتر مربع، الكبرى بينها جزيرة البحرين التي تشكل وحدها أكثر من ثمانين في المئة من مساحة المملكة التي سُمّيت باسمها. يتردّد هذا الإسم في كتب التراث، وهو في مؤلفات الجغرافيين العرب إسم إقليم كبير يمتدّ من البصرة شرقاً إلى عمان جنوباً، ومن اليمامة شمالاً إلى ساحل الخليج جنوباً. ذكره ياقوت الحموي في "معجم البلدان"، وقال في تعريفه: "إسم جامع لبلاد على ساحل بحر الهند بين البصرة وعمان"، "فيها عيون وبلاد واسعة". تعدّدت الآراء في شرح أصل هذا الإسم، وقيل إنه يشير إلى موقع هذه البلاد بين بحر فارس وبحر عمان، وقيل إنه يرمز إلى نبع المياه العذبة وسط المياه المالحة، وقيل أيضا إن العرب "أثنوا البحر"، لوجود بحيرة "بينها وبين البحر الأخضر عشرة فراسخ"، كما نقل ابن منظور عن الأزهري في "لسان العرب"، واستعاد ياقوت الحموي هذا القول في معجمه، كما استعاده القلقشندي من بعده في "صبح الأعشى".


يصعب تحديد الحقبة التاريخية التي أصبح فيها هذا الإسم خاصاً بجزر البحرين دون شرق الجزيرة العربية. في القرن الرابع عشر، يذكر الرحّالة المغربي ابن بطوطة أنه حطّ في "مدينة البحرين، وهي مدينة كبيرة حسنة ذات بساتين وأشجار وأنهار، وماؤها قريب المؤونة يحفر عليه بالأيدي فيوجد، وبها حدائق النخل والرمّان والأترج، يزرع بها القطن، وهي شديدة الحر كثيرة الرمال، وربّما غلب الرمل على بعض منازلها، وكان في ما بينها وبين عمان طريق استولت عليه الرمال وانقطع، فلا يوصل من عمان إليها إلا في البحر". ويبدو أن صورة البحرين لم تتغيّر عبر الزمن. تُعرَف هذه الجزيرة عند أهل الخليج بـ"أم المليون نخلة"، كما تُعرَف بـ"لؤلؤة الخليج"، ويُعتبر اللؤلؤ البحريني من أثمن أنواع الأحجار الكريمة، وذلك منذ قرون طويلة. تحدّث ابن بطوطة عن "مغاص الجوهر فيما بين سيراف والبحرين في خور راكد مثل الوادي العظيم"، وقال إن الغوّاصين يقصدونه في الربيع، "ومعهم تجار فارس والبحرين والقطيف". وذكر الكثير من الرحّالة من بعده عن هذا اللؤلؤ، ووصفوا الطرق المتبعة لاستخراجه من الأعماق. ارتبط اسم البحرين بلؤلؤها، وباتت هداياها لؤلؤية، وعندما نُصِّب أحمد شوقي أميرا للشعراء في عام 1927، كرّمه نائب حاكم البحرين الشيخ حمد بن عيسى بن علي آل خليفة في دار الرابطة الشرقية في القاهرة، وقدّم اليه هدية بحرينية هي عبارة عن نخلة طولها ثلاثون سنتيمترا، جذعها وسعفها من الذهب، وثمرها من لؤلؤ بلاده.    

عين الفرات


جمعت جزيرة البحرين منذ أقدم العصور بين عيون المياه الحلوة والمياه المالحة في البحار المحيطة بهذه العيون، وقيل إنها هي نفسها دلمون، التي تردّد اسمها في النصوص السومرية، وهي "أرض الأحياء" التي قصدها جلجامش باحثاً عن نبتة الخلود، و"ليس فيها مرض أو موت أو حزن". "نقي بلد دلمون، مقدس بلد دلمون". "بلد دلمون مغمور بالنور، متميّز بالإشعاع"، إليه يحمل إله الشمس "المياه الحلوة من الأرض"، ودلمون تشرب من هذه المياه بوفرة، فتنتج أطيانها وحقولها قمحاً، وتتحول مرفأ الأرض. بعد أكثر من ألفي سنة، بلغت سفن الإسكندر شواطئ البحرين وأطلقت عليها اسم تايلوس. تبدّل الإسم مع الزمن كما يبدو، وتحوّل قبيل ظهور الإسلام فصار أورال. ذكر ياقوت الحموي هذا الإسم في معجمه، وقال: "جزيرة يحيط بها البحر بناحية البحرين، فيها نخل كثير وليمون وبساتين". والبحرين كما أشرنا، هي في زمن ياقوت إقليم يمتد من البصرة إلى عمان. أما أورال، فهي الجزيرة التي عُرفت بعدها باسم البحرين. أورال، بحسب صاحب المعجم، اسم صنم على شكل ثور عبَده قديما أقوام سكنوا هذه البلاد منذ الجاهلية، وهي من بني بكر بن وائل وتغلب بن وائل. قبل ياقوت، ذكر المقدسي أورال في كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، وأشار إلى استخراج اللؤلؤ من المياه المجاورة لها، مما يعني أن هذه الجزيرة كانت تُعرَف بهذه الحرفة منذ نهاية القرن العاشر.


ربط البعض بين البحرين ودلمون، وربط البعض الآخر بينها وبين البحرين القرآنية. في مطلع القرن العشرين، ألّف شيخ بحريني يُدعى هبة الدين الحسيني الشهرستاني كتاباً عنوانه "الدلائل والمسائل"، وفيه تحدّث عن "عين الفرات في البحرين"، وقال: "رأيت هذه العين وشربت من زلالها العذب، وهي في نفس البحرين وليست في بحيرة. نعم هي حول قرى البحرين بقرب بلدة محرّق. وهذه العين ذات قوة في دفع معينها إلى نحو خمسين قدماً من خلال ماء البحر الأجاج المالح. والمرجّح عندي أن معينها ينزل من جبل بندر عباس غائراً في تجاويف صخرية بباطن الأرض إلى أن تنفجر من لدن البحرين". هذه العين هي التي أشار إليها القرآن في "سورة الرحمن" (19-22): "مرج البحرين يلتقيان. بينهما برزخ لا يبغيان. فبأي آلاء ربكما تكذبان. يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان".


تبدّلت أحوال جزيرة البحرين على مر العهود الإسلامية، غير أن صورتها الأولى لم تتغير. كتب أمين الريحاني في "ملوك العرب": "ليس بين مسقط والبصرة أجمل من مركز هذه الجزيرة، وليس أصلح منه للتجارة أو الحرب، فهي تتوسط الخليج في زاوية معينة منه، كأنها بارجة راسية في جون متسع بين قطر والقطيف، بل كأنها عند مهد اللؤلؤ جوهرة كبيرة، فلا عجب إذا تسابق إليها الفاتحون من قديم الزمان". شهدت البحرين صراع العباسيين والقرامطة في نهاية القرن العاشر، ثم تناوب على حكمها عدد من السلالات العربية، بعدها خضعت لحكّام فارس من الأتراك، وسيطر عليها حكّام هرمز حتى أوائل القرن الخامس عشر حيث تمكنت قبيلة الجبور من بسط سلطتها على بلاد الإقليم كلها، غير أنها لم تنعم طويلاً بهذا "الاستقلال". بلغ البرتغاليون الخليج في تلك الفترة، وباتت جزر البحرين تحت سيطرتهم على مدى ثمانية عقود، ثم خضعت للدولة الصفوية، وعانت طويلا من الحروب المتواصلة بين الصفويين "الشيعة" والعثمانيين "السنّة".


عام 1783، قامت قبائل العتوب بقيادة أسرة آل خليفة في قطر بهجوم بحري على البحرين، ونجحت في السيطرة عليها. واختلفت الآراء في تحديد نسبة هؤلاء العتوب، والشائع أن الإسم جمع "عتبي"، وهو حلف يضم أفخاذاً كثيرة تنتمي الى مجموعة من القبائل قدمت من نجد واستقرت على ضفاف الخليج، وتصاهرت في ما بينها حتى أصبحت تشكل حلفا يُعرَف بـ"العتوب". من هذا الحلف القبلي، تفرّعت أسرة آل خليفة في البحرين، وأسرة آل الصبّاح في الكويت. استقلّ آل خليفة بالبحرين، ودخلوا في صراع مع ما يُعرَف بـ"الدولة السعودية الأولى"، وتجدد هذا الصراع بعد قيام "الدولة السعودية الثانية"، في زمن امتداد نفوذ الأمبراطورية البريطانية إلى الخليج العربي وتحوّل المنطقة "بحيرة بريطانية". اعتبر الإنكليز البحرين "إمارة مستقلة"، وأرسلوا أسطولاً لحمايتها، وعقدوا سلسلة من المعاهدات مع شيوخ ساحل الخليج، فصار يُعرَف بـ"الساحل المعاهد". عام 1861، وقّعت بريطانيا مع البحرين "معاهدة سلام وصداقة دائمة"، وفي عام 1869، وقّعت معاهدة حماية مع الشيخ عيسى آل خليفة، وبهذه المهاهدة تمّ تأكيد سلطة آل خليفة على البلاد. ظلت البحرين محميّة بريطانية حتى 14 آب من عام 1971، حين أصدر الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة بياناً أعلن فيه استقلال البحرين وانهاء جميع المعاهدات السياسية والعسكرية التى تنظّم علاقات التحالف بين حكومة البحرين والحكومة البريطانية، معلنا بذلك البحرين دولة عربية مستقلة ذات سيادة. في اليوم التالي، تم تشكيل أول مجلس للوزراء في البلاد في رئاسة الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة، وباتت دولة البحرين عضواً في جامعة الدول العربية. بين توقيع معاهدة الحماية البريطانية وإعلان استقلال الدولة، جاهرت إيران مراراً بحقّها في حكم البحرين. وفي عام 1970، أٌجريَ تحت إشراف الأمم المتحدة استفتاء صوّت
فيه البحرينيون لبقاء البحرين مستقلة عن إيران.

التحوّل الكبير


تغيّرت معالم البحرين بشكل جذري في النصف الثاني من القرن العشرين، وجاء هذا التحول بعد اكتشاف البترول في أرضها عام 1932. استمر تدفق النفط، ونتجت من ذلك التدفق قفزة عظيمة في اقتصاد البلاد، وحركة عمرانية متسارعة تمثلت في ارتفاع الأبراج وناطحات السحاب وسط المنامة. رافقت هذا النمو انتفاضات عمالية، أولاها إضراب في العام الذي بدأ فيه تدفق البترول، وتلاه إعلان للعصيان في عام 1956، وصدام دموي في 1961، وتوقف الحياة البرلمانية في 1975. استقر الوضع في الثمانينات، وتوطّدت سلطة آل خليفة على الدولة. أُعلن الشيخ حمد بن عيسى أميراً على البحرين في آذار 1999، وتحولت البحرين مملكة في شباط 2002، بعد التصويت على ميثاق العمل الوطني.


سار البحرينيون على خطى المصريين، وهم في غالبيتهم العظمى من الشباب الثائرين ضد القمع والفساد والحكّام العجائز. تعكس هذه الانتفاضة الجديدة صراعاً قديماً يتجلّى في قراءتين متباينتين لتاريخ هذه المملكة. ترى القراءة الأولى أن البحرين تحولت في العصر الحديث من مستعمرة إيرانية إلى إمارة عربية يحكمها آل خليفة الذين بنوا أسطولها التجاري ورعوا نموّها الإقتصادي. بينما ترى القراءة الثانية أن السلالة الحاكمة ما هي إلا أسرة دخيلة وفدت من "الخارج" واستولت على البحرين بفضل البريطانيين، وذلك منذ 1783 إلى يومنا هذا. تتحكم هذه الأسرة السنّية المذهب بشعب غالبيته الساحقة من الشيعة العرب، ويحيي هذا التسلّط صراعاً مستديماً يستمر منذ قرون. في زمن المماليك، مرّ ابن بطوطة بمدينة البحرين، ومنها قصد القطيف، وهي اليوم مدينة سعودية تقع في المنطقة الشرقية، في المحافظة التي تحمل اسمها، وكانت في أدوار مختلفة عاصمة للإقليم الذي عُرف قديماً باسم البحرين. توقف الرحّالة الآتي من طنجة في هذه المدينة، فوجدها "كبيرة حسنة ذات نخل كثير يسكنها طوائف العرب، وهم رافضية غلاة، يظهرون الرفض جهاراً لا يبقون أحداً، ويقول مؤذّنهم في أذانه بعد الشهادتين: أشهد أن علياً وليّ الله، ويزيد بعد الحيعلتين: حي على خير العمل، ويزيد بعد التكبير الأخير: محمد وعلي خير البشر ومن خالفهما فقد كفر". يعلو صوت المعارضة في البحرين، بينما يتخوف الخليج من امتداد "الانتفاضة الشيعية" إلى المنطقة الشرقية من السعودية حيث يعيش نحو مليوني نسمة  من الشيعة. ونجد أقليات شيعية في دول خليجية أخرى، مما يزكّي هذا التخوّف ويزيد من حدته.


يجدر القول هنا إن التظاهرات البحيرينة الأخيرة خلت من الشعارات "الإيرانية" الطابع، كما إنها لم تطالب بخلع النظام، واقتصرت مطالبها على المناداة بملكية دستورية حقيقية، وببرلمان منتخب من الشعب. وتبدو هذه المطالب محقة تماماً في ظل حكم يستند الى مجلس شورى يتولى أعضاؤه الذين يعيّنهم الملك الصلاحيات التشريعية الأساسية، وحكومة نصف أعضائها من عائلة آل خليفة المالكة. عام 1999، أطلقت السلطة مشروعاً إصلاحياً ترافق مع إطلاق حرية النشاط السياسي، ألا أنها عادت في عام 2002 وأدخلت تعديلات على الدستور شكّلت نكسة لهذا المشروع الإصلاحي. السؤال اليوم: هل تستعيد هذه السلطة المبادرة وتؤسس نموذجاً للانتقال إلى ملكية دستورية حقيقية تتوافق مع الديموقراطية في أبسط معانيها، أم تستمر في سياستها القديمة؟ في انتظار ما ستحمله الأيام، لا نملك سوى أمنيتنا بأن لا تسقط هذه الاحتجاجات المشروعة في المذهبية وتتحول حلقة أخرى من حلقات صراع ديني لا ينتهي.



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة